الأربعاء، ١٥ أغسطس ٢٠٠٧

بيت مولانا الشيخ محمد أمين الكردى (1)

بيت مولانا
الشيخ محمد أمين الكردى
الإمام العلامة الولى الكبير محمد أمين الكردى أحد أعلام مصر فى القرن الماضى ، وأسس بها بيتا من أهم بيوت العلم والدين بمصر فى الوقت الحاضر ، يذكرنا ببيت السبكى والبلقينى ، ونحوها من بيوتات العلم بمصر وغيرها من أقطار الإسلام ، والتى حمل أجيالها لواء العلم والدين([1]) .
وكان بعد الشيخ الكردى نجله : الإمام الكبير سيدنا الشيخ نجم الدين محمد أمين الكردى رضى الله عنه (ت 1406 هـ / 1986 م) ، والذى توفى والده وهو صبى صغير ، ثم تولى مشيخة الطريق بعد مولانا الشيخ سلامة العزامى خليفة سيدنا الشيخ الكردى .
وسوف نفرده بالترجمة بعد ترجمة أبيه إن شاء الله ، والذى خلف بعده من الأبناء من هم بحق درة هذا العصر ، فكان منهم من أكابر علماء الأزهر الشريف : مولانا الشيخ الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الكردى (محمد عبد الرحمن بن نجم الدين بن محمد أمين الكردى ت 1408 هـ / 1988 م) نائب رئيس جامعة الأزهر والأستاذ بكلية اللغة العربية ، ومولانا شيخ الإسلام ضياء الدين الكردى ( محمد ضياء الدين بن نجم الدين بن محمد أمين الكردى ، ت 1422 هـ / 2002 م) أستاذ العقيدة والفلسفة بأصول الدين ، والذى كان رضى الله عنه عازفا عن المناصب العليا ، مع كثرة ترشيحه لها ، ومولانا العارف بالله بركة الوقت فضيلة الدكتور محمد نجم الدين الكردى ، من كبار علماء الأزهر الشريف ، والمستشار بوزارة العدل ، حفظه الله تعالى ، ونفعنا به فى الدارين ، وأمد فى عمره .
ولمولانا الشيخ نجم الدين غير ذلك من الأبناء ، وجميعهم من أهل الأدب والعلم ، وأكثرهم تلقى العلم بالأزهر الشريف ، نسأل الله لهم الزيادة من فضله .
هؤلاء هم أبناء الشيخ الكردى ونوافله من صلبه([2]) ، وأما أبناؤه بالتربية فألوف كثيرة ، والذين حملوا راية العلم والدعوة منهم عشرات فى مصر والشام والهند وبلاد جنوب شرق آسيا وغيرها .
وبيت الشيخ الكردى جدير بحق بأن يكون محل دارسة متخصصة تبين أثره فى العلم ، والدعوة ، والإرشاد ، والجماعة العلمية الإسلامية بصفة عامة ، والجماعة العلمية الأزهرية بصفة خاصة ، فقد كان للبيت موقفا متميزا من تطوير التعليم الأزهرى ، كما شارك علماء البيت فى وضع مناهج العديد من الجامعات الإسلامية فى العالم ، وكانت مكتبة البيت العامرة محط أنظار الدراسين وطلبة الماجستير والدكتوراة ، كما كان للبيت مواقفه الرائعة تجاه شتى قضايا العصر التى ثارت فى العقود الأخيرة . نسأل الله تعالى أن يوجه أنظار أحد الباحثين لدراسة أثر هذا البيت فى الحياة العلمية والدينية .
عود على بدء :
وإذا عدنا للحديث عن مولانا الشيخ محمد أمين الكردى رضى الله عنه ، فنذكر أنه قد ترجم له الزركلى فى الأعلام (6/43) بترجمة مختصرة فأجحفه حقه ، عادته مع كل من لم يكن على مشربه أو من بلده ، ولا يبين ما كان لهم من أثر فى الحياة العلمية والدينية والاجتماعية فى عصرهم ، بخلاف من كان على مشربه فإنه يفخم أمرهم ، ويبالغ فى تقديرهم ، وخلع أوصاف الإصلاح والاجتهاد عليهم .
على أن الشيخ سلامة العزامى - والذى كان من كبار علماء الأزهر ، ومن كبار مريدى الشيخ الكردى ، وقد تولى الإرشاد ومشيخة الطريقة بعده - قد ترجم لشيخه بترجمة ضافية طبعت فى أول كتاب تنوير القلوب([3]) ، ومع تداول الكتاب فلا حاجة لإيرادها بتمامها هنا ، ولكن لنقتبس منها ما يليق بالمقام ، مع إضافات يسيرة ، ونردفها بترجمة مناسبة لمولانا الشيخ نجم الدين الكردى رضى الله عنه .
ترجمة
مولانا الشيخ الكردى
قال الشيخ سلامة العزامى رحمه الله تعالى :
هو شيخ شيوخ العصر وقدوة جهابذة كل مصر ونور أضاء من عين المنة الإلهية على هذا القطر . أفرغت عليه خلع الرشاد النبوى والإرشاد المحمدى وكان أحق بها وأهلها . وقد فاز من الوراثة لسيد النبيين صلى الله عليه وسلم بالنصيب الأوفى . ولد هذا القطب الكبير فى النصف الثانى من القرن الثالث عشر من الهجرة بمدينة إربل وهى من المدن الشهيرة بالعراق ، وشب فى حجر أبيه ، والذى كان له اشتغال بالعلم والدين على قدم راسخة فى الطريقة العلية القادرية ، وتعلم من القرآن والعلم ما شاء الله ولم يلبث أن اجتذبته يد العناية الربانية وغمره صيب الألطاف الإلهية على يد شيخه القطب الأكمل مولانا الشيخ عمر ابن مولانا الشيخ عثمان الطويلى شيخا الطريقة النقشبندية ببلاد الأكراد بالعراق . وقد صحب شيخه عدة سنوات يشمر فيها عن ساعد الجد ، ويبذل فى المجاهدة فى الله أقصى جهد ، يوفى كل ذى حق حقه ، ويقوم لمولاه بدوام الذكر والعبودية ، ويوفى لشيخه بحقوق الصحبة ويخدم إخوانه ويصحبهم بحسن العشرة . وقال الأستاذ رضى الله عنه : (كنت فى زمن صحبة الشيخ لا أفتر عن خدمة الإخوان وتعهد المرضى ولا تأنف نفسى من غسل الأذى عنهم ولا أحمل أحدًا من الإخوان شيئاً من أثقالى) يبتغى بذلك فضلا من الله ورضوانًا ، وعلى هذا القدم كان مولانا الشيخ عبيد الله أحرار ، حتى قال : ((ما أدخلونى إلا من باب الخدمة)) .
ثم تاقت نفسه المباركة إلى الحج وزيارة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم ، فسافر عازمًا على أن يعمر الأوقات كلها بالمراقبة والأذكار ما دام بمكة ، وقد أقام بها سنة كاملة موفيًا لربه بما عزم عليه ، قال : ولم أكن أبالى بشىء فى طلب الحق ، الصعب فى ذلك صار بفضل الله سهلا ... ولما قضى نسكه انبعث إلى زيارة النبى الأكرم صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك عام (1300 هـ) فأقام بالمدينة سنوات . وعكف على تلقى الدروس والتحق بالمدرسة المحمودية وبرع فى العلم والفهم حتى ألقى الدروس بالمسجد النبوى بعد قليل ، وعرف بالفضل والصلاح ، وتزوج إذ ذاك بإحدى فضليات الأتراك خطبته إلى نفسها ولم يرزق منه بشىء من الولد وكان طول إقامته بالمدينة يحج كل عام .
رحلته رضى الله عنه
إلى الديار المصرية
ورحل إلى هذا القطر زائرًا كريمًا وضيفًا عزيزًا لم تشهد مصر مثله فى الولاية وافدًا من زمن غير قصير ، والتحق بمعهدها العلمى الأكبر ((الجامع الأزهر)) وانتسب برواق الأكراد ، وأقبل على الاشتغال بالفقه والحديث ، فحضر دروسًا فى البخارى على أستاذ المحققين الشيخ محمد الأشمونى المتوفى فى أوائل العقد الثالث من هذا القرن ، وأخذ الفقه على الشيخ مصطفى عز الشافعى ، وغيره من أفاضل الوقت ... وسكن ((امبابة)) وهى قرية قريبة من مصر ، وكان يخرج منها كل يوم قبل الفجر ليشهد الفجر بمصر ومنها تأهل ، ورزق من أهله هذه عدة أولاد أناث وذكور ، لم يعش منهم بعده إلا أحمد ، وتوفى بعد والده ببضع سنوات فيها أتم حفظ القرآن الكريم ، والتحق بطلبة الأزهر ، وكانت وفاته رحمه الله تعالى برصاصة من يد إنجليزى فى أثناء هذه الحوادث الشديدة التى شجرت بين المصريين والإنجليز ، ثم بدا له رضى الله عنه أن يتحول بأهله إلى بولاق مصر ، فكانت مسكنه حتى لحق بالله عز وجل ، وكان رضى الله عنه شديد التعلق بعلم الحديث والتفسير ، ولذلك كان يثابر حتى السنوات الأخيرة من حياته على درس شيخ الإسلام شيخ الجامع الأزهر سليم البشرى ، سمع عليه الكثير من الصحيحين ... وكان شيخ الإسلام حسن الاعتقاد فى الشيخ يجله ويطلب منه الدعاء كثيرًا ، ويقول : العالم بخير ما بقى هذا الشيخ . ثم اشتغل بالإفادة والتدريس ببولاق ، ودَرَّس الحديث والفقه والكلام ، واتفق أن مرض إمام مسجد السنانية وهو ببولاق قريب من البحر مرضًا لا يستطيع معه القيام بوظيفته ، فناب الشيخ عنه فيها خمس سنوات تقريبًا لا يأخذ من راتبها شيئًا يؤدى الوظيفة ، ويعطى راتبها كله للأصلى لحاجته وفقره .
مبدأ اشتغاله بالإرشاد بمصر
ثم غلبت عليه نسبة أشياخه الأكابر النقشبندية ، وفجأه من الواردات النورانية الربانية ما قهره على القيام بحقوق النيابة عنهم . دعا الناس إلى الله ليلا ونهارًا ، وسافر من أجل ذلك إلى الكثير من المدن والقرى ... وتفنن فى أساليب الإرشاد إلى الله تعالى صابرًا محتسبًا ، فتارة بحاله ، وأخرى بمقاله وطورًا بماله ، لا يدخر وسعًا فى بذل النصيحة للمسلمين . وكان من سيرته مع المنسوبين إليه ما كان من سيرة متبوعه الأعظم صلى الله عليه وسلم ، يؤلفهم ولا ينفرهم وينزلهم منازلهم ، ويستر عوراتهم ، ويذكر محاسن كل منهم للآخر يؤلف بينهم فى الله ، ويجمعهم على الله فيشغل جلساءه بسماع القرآن أو بالذكر أو مذاكرة العلم النافع ، ولا يحب للمريد أن يتجرد للذكر عما أقامه الله فيه من حرفة أو تدريس أو تعلم ويأمره بالجمع بين المحافظة على ما تيسر من الذكر والإقامة على ما هو عليه من تقوى الله ومراقبته فيما أقامه فيه . وكان رضى الله عنه لا يسأم من تكرير المواعظ ولا ييأس من هداية غوى كأن الإرشاد جبلة فيه جبله الله عليها ، فى رفق وتواضع تعلوه مهابة ووقار . مر ونحن معه فى سفرة على جماعة يلعبون بالنرد أو غيره لا أتذكر الآن لعبتهم فما زادهم على أن قال : (أنتم تلعبون الميسر!) فما رئى أحد منهم لاعبًا بعدها ... ومر مرة على عرس فيه منكر فتغير قلبه لذلك وكان يشمئز من المنكرات ، فقال لمن معه من أهل البلد : ألا تمنعون هذا ؟ فذكروا له من فجور صاحب العرس وفسقه ، فدعا له بالهداية ، فأصبح وقد جاءه الرجل ليأخذ عنه الطريق وما صلى قبل ذلك قط ، فنظر إليه رضى الله عنه ، فإذا هو لا يتمالك نفسه من البكاء والصياح وتاب توبة صادقة.
ومن كراماته الكرامة الكبرى عند المحققين من العارفين ، وهى الاستقامة على جادة الشريعة المحمدية باطنًا وظاهرًا على ممر الأوقات ، واختلاف الأحوال . أما الاستقامة الباطنة فهى سلامة العقيدة من مذاهب أهل الأهواء ، والتحلى بالأخلاق المستقيمة ، وأما الظاهرة فهى اجتناب المناهى وإتيان المأمورات قدر المستطاع من غير تفريط ولا إفراط ، وإنما كانت هذه الكرامة بالمنزلة التى وصفناها لأنها العلامة الصادقة على ولاية من خلعت عليه دون ما عداها من الخوارق ، فإنه قد يجريها الله تعالى على يد المحق إكراماً ، ويخلقها على يد المبطل مكرًا واستدراجًا ... وإذ قد عرفت ذلك فاعلم أنه رضى الله عنه كان من الاستقامة بأقسامها كلها بالمنزل الأعلى ، تكفلت كتبه بشرح عقيدته ، وهى كما تنطق به تلك الكتب عقيدة أهل السنة ، وكان يختار فى آيات الصفات وأحاديثها مذهب أفاضل المحققين من السلف ، وهو تنـزيه الله عز وجل عن الظاهر المستحيل ، وتفويض معانيها المرادة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم . وماذا أقول فى أخلاقه رضى الله عنه ؟ كان آية فى الشجاعة والنجدة ، إمامًا فى التواضع والصفح والكرم والسخاء ... بل كان رضى الله عنه مضرب الأمثال فى كل خلق كريم ، تشبعت ذاته بالأنوار المحمدية . يؤثر على نفسه ، ولو كان به خصاصة فى غير مَنٍّ ولا أذى ، ويحث أتباعه على الإيثار والمواساة ، فرغ قلبه من هم الدنيا وماتت نفسه عن شهواتها ، بل كان إذ جالسه من أحاطت به الهموم ، انزاحت عنه بمجرد مجالسته ، وأحس قلبه براحة تامة .
وأما استقامته الظاهرة ، فقد كان فيها غاية لا تدرك ؛ يتعبد على مذهب الإمام الشافعى رضى الله عنه ويراعى المعتمد من الأقوال فى المذهب ، فى غير وسوسة ولا تنطع ، لا يحب المنكر ولا يقره ويغيره بما استطاع من المراتب المنصوص عليها فى الحديث الشريف . وكان إذا وعظ أصحابه أو غيرهم تراه كأنه يشاهد ما حذر منه أو رغب فيه ، وإذا أمر بمعروف أو نهى عن منكر ترفق وتلطف ، قد اتسعت نفسه للمسترشدين على اختلاف طبقاتهم ، يأخذ بكل منهم إلى الدين من أقرب الطرق التى تلائم مشربه ، وهو مع ذلك يشتغل بتصنيف المصنفات فيما دعت إليه الحاجة وطبعها وتصحيحها ، ويقوم بحوائج أهله : يكنس بيته ، ويخدم ضيفه ، وإن كان صغيرًا حقيرًا ، فى تبسط لا يذهب بالوقار ، ونشاط يتنـزه عن الطيش ، ولم يكن بالمتكلف ، إن كان عنده الشىء قدمه ، وإلا سكت راضيًا غير قلق ولا متحير ، وكان إذا صلى اعتدل غير مطول ولا مجحف ، يحافظ على الوتر والرواتب ، ويصلى الضحى إذا وجد من نفسه خفة . ورده اللازم الدائم شغل القلب بالله عز وجل . وكان يتحرى السهل من العبارات فى تصنيفه ووعظه ، ويقرب المعانى العالية بالأمثال الواضحة .
وكان رضى الله عنه مع تقدمه فى السن شديد الصبر على مشاق الأسفار لا يسأم الإرشاد فى ليل ولا نهار ، وسطًا فى مأكله ومشربه ومنامه ، ينزل عند الغنى والفقير وينهاه عن التكلف ، يأتيه الوافدون وهم كثير حتى إذا حضروا الدرس والختم أمرهم بالانصراف إلى بيوتهم ، وربما ذهب بهم إلى حيث نزل فأمر لهم بالقهوة ثم أمرهم بالانصراف حتى لا يضيق الأمر على رب المنزل ، فإذا ألح عليه أن يطعموا عنده وعرف فيه الصدق والسماحة أذن فى ذلك ، وكان يقول : (طعام المريد سماع العلم ، وحضور الذكر والختم ، ولا ينبغى أن يكون همه إلا ذلك وليس من شأن المريدين الصادقين إذا حضروا من بلادهم أن يقصدوا الأكل عند الإخوان فإن وقع ذلك ولم يكن هو الباعث على المجىء ، وكان عن طيب خاطر من المضيف لم يكن به بأس ؛ بل إن شق ترك الطعام على رب المنزل كان تناوله أفضل من تركه) . وإذا كان رضى الله عنه فى السفر فإنما هو دلالة على الله ، وإذا لم يجد إقبالا فى قرية على الخير بعد بذل خالص النصيحة أسرع إلى التحول عنها ، وقال : (من ضياع العمر والخسران فيه البقاء مع مثل هؤلاء) ولا يمنعه ذلك أن يعود إليهم إذا آنس فيهم ميلا إلى الرشاد ، وإن هو أقام فلن تراه إلا ذاكرًا أو مذكرًا ، أو مشغولا بتصنيف ، أو مطالعة فى علم نافع ، أو رادًّا لشارد بالهمة وقوة التوجه ، أو متوجهًا إلى الله فى دفع بلاء خاص أو عام ، أو جلب خير كذلك ولا يصرف همته عن الطلب رؤية تعسر السبب ، ولا يدع ما قدر عليه من الأسباب العادية المشروعة اتكالا على قوة التوجه الباطنى بل يتعاطاهما جميعًا ، فإن ظفر بحاجته من ربه وإلا أحسن الظن بمولاه ، ولم يجد فى نفسه حرجًا من ذلك المنع وسلم تسليما .
وكان رضى الله عنه يهتم لما يعرو أصحابه أشد مما يهتم لنفسه ، ولا يدع السؤال عنهم يزور مرضاهم ، ويشيع جنائزهم ، ويعزى مصابهم إن استطاع لذلك سبيلا ، ولا يحتشم ذا جاه فيمتنع من الإنكار عليه فيما ينبغى أن ينكر ، ولا يغلظ عليه حتى يستوحش ، وكان يكثر من ذكر الموت والتذكير به . خرجت مرة فى تشييع جنازة وكان ذلك أول ما صحبته فلما رجعت سألنى : أين كنت ؟ فأخبرته فقال : رجعت فى هذه المرة وليأتين يوم تذهب إلى المقابر ما ترجع . وكان لهذا الكلام أثر فى التذكير بالآخرة لا ينسى ، وكان كثيرًا ما يقول عند إرادة القيام من مجلسه : نقوم مرتين ، ويمدهما ، يشير إلى القيام للبعث لله رب العالمين ، ويقيم القرائن على هذا المعنى . وكان كلما انتقل من موضع جعل هذا انتقال عبرة إلى انتقال العبد من الدنيا إلى الآخرة وكان يقول : ذكر الموت باللسان لا يجدى شيئًا إنما المعول على ما كان بالقلب فإنه الذى تترتب عليه الآثار المطلوبة للشارع صلى الله عليه وسلم فى أمره بذكر هاذم اللذات وكان يبالغ فى النهى عن اللغو من القول والفعل .
وقد صحبته رضى الله عنه ، وتشرفت بأخذ الطريق عنه بالأزهر الشريف آخر شوال سنة (1324 هـ) إلى آخر حياته ومرض عدة مرات فلما رأى ما بى من أثر الغم قال : لا تحزن فإنى وإن كنت ميتًا ولابد لكنى لن أموت فى هذا المرض حتى إذا كان مرضه الذى توفى فيه قال لى رضى الله عنه : (مهما أتيت به من طبيب أو دواء فلن يغنى شيئًا قد حضر الأجل فى هذه المرة) فكنت أجوِّز أن يكون ذلك من شدة الوجع وأقول : بل أنت معافى منه إن شاء الله فيسكت متبسما فلما كانت صبيحة يوم السبت الحادى عشر من شهر ربيع الأول صعدت إلى غرفته على العادة فقلت : كيف أصبحتم اليوم ؟ فقال رضى الله عنه ما لفظه (هذا آخر يوم من عمرى) فأظهرت التجلد وقلت متبسما : بل هو أول يوم فى الشفاء إن شاء الله تعالى فقال : (لا بل هو ما قلت لك) ثم قال : (أنا محمد عبيد الله – ومد لفظة الجلالة وسكن الهاء – أنا راض) مرتين أو ثلاثا وصدق الخبر الخبر فإنه توفى فى أوائل الليلة التالية لهذا اليوم (ليلة الأحد) وكان إذا سمع منه أهله أنه مقبوض فى هذا المرض صاحوا وقالوا : لمن تتركنا ؟ فيقول : لله الذى خلقكم ، ولا يرى عليه أثر ضجر لفراقهم . ولم يأت ضحى ذلك اليوم حتى أقبل الناس من كل فج ، ولم يشرع فى تجهيزه إلا بعد الظهر ، ولما احتمل على سريره ازدحم الناس جدًا حتى خشينا أن يقع ما لا نحب وإذا برذاذ خفيف كأنما نزلت فيه السكينة والوقار ، وهدأت الحال ، وانتظم أمر المشيعين وكأن الأرض تطوى تحت أرجلهم ، حتى لم يشعر أحد بتعب مع بُعد المسافة ، وصلى عليه بالأزهر الشريف ، وكان المصلون عددًا لا يحصى ، مع أن الزمان كان زمان مسامحة الطلبة وسفر الكثير منهم إلى بلادهم ، ثم دُفن رضى الله عنه بقرافة المجاورين على مقربة من قبرى الإمامين الجليلين الجلال المحلى ، والتاج السبكى ، وقد بُنى على القبر مزار لإحياء الزيارة ، وللأمن من انتهاك حرمة صاحب القبر بالنبش ونحوه ، مما هو واقع الآن فى قرافة مصر ، ولا يخفى أن البناء لهذه الأغراض أجازه كثير من أهل العلم المحققين ، وخصصوا النهى الوارد فى المنع من البناء على القبر ، وتخصيص العمومات بالمخصصات المعتبرة ذائع شائع فى الكتاب والسنة ، ولا يتمارى فيه اثنان من أهل الفضل ، وممن صرح بتخصيص النهى الحافظ الكبير ، والفقيه المتقن جلال الدين السيوطى فى آخرين من الجهابذة من شافعية وغيرهم ، وإنما ينكر على الشىء إذا كان منكرًا إجماعًا ، وليس هذا منه بحمد الله تعالى .
هذا آخر ما قصدنا إيراده من كلام مولانا الشيخ العزامى رحمه الله ، داعين القارئ للاستزادة من ترجمة مولانا الشيخ الكردى الموجودة بتمامها فى أول كتاب تنوير القلوب .
أهم تلاميذ
مولانا الشيخ الكردى
ذكر مولانا الشيخ سلامة العزامى فى ثنايا ترجمته لسيدنا لشيخ الكردى بعض كبار تلامذته ، نذكرهم ونضيف إليهم بعض من وصل إلينا بالسماع :
1) مولانا الشيخ سلامة العزامى (ت 1376 هـ) ، وقد تولى مشيخة الطريقة بعد سيدنا الشيخ الكردى . 2) مولانا الشيخ محمد يوسف السقا (ت 1360 هـ) ، وهو أحد خلفاء سيدنا الكردى وكانت له تلاميذ ومريدين من أشهرهم خليفته العلامة الشيخ الولى عبد الوهاب سليم إمام مسجد الإمام الشافعى والذى انقطع بوفاته هذا الفرع من الطريق . 3) العالم الفاضل إبراهيم ناجى (ت 1379 هـ) . 4) العالم الفاضل العلامة محمد يوسف الباهى . 5) العلامة الشيخ أبو الخير محمد بن عبد الواحد الإهناسى (ت 1371 هـ) . 6) العالم الصالح الشيخ سليمان شاكر (ت 1348هـ) . 7) العالم الفاضل موسى زهير . 8) العلامة المحقق الشيخ محمد راضى الحنفى ، وكان مشهورا بين أهل العلم بالأزهر بالذكاء وشدة العارضة وسعة العلم . 9) الأديب الصالح الشيخ سليمان بن على بن يونس الجهنى (ت 1348 هـ) . 10) العارف بالله الشيخ وافى عبد الصمد أشعث .
ومن طرائف العلم :
أن مولانا الشيخ محمد أمين الكردى رضى الله عنه توفى سنة (1332 هـ ) وما زال بعض مريديه حيا إلى اليوم أو توفاهم الله تعالى فى السنين الأخيرة ، وهؤلاء ممن أدركوا الشيخ الكردى صغارا ، ثم عُمِّروا حتى جاوزوا المائة ، فمن هؤلاء الحاج الصالح صادق الكومى عمدة قرنفيل بالقليوبية ، وكان مشايخنا إذا نزلوا ببلده يقصدونه بالزيارة صلة له ، وحفظا لمودته .
ومن هؤلاء الشيخ البركة زكريا البخارى ، المجاور بالمدينة المنورة وقد جاوز المائة والعشرين سنة فيما سمعنا ، وعندما رأى حفيده مولانا شيخَ الإسلام ضياء الدين الكردى رحمه الله أثناء زيارته للنبى صلى الله عليه وسلم فى أواخر القرن الهجرى الماضى ، فاعتقد أنه الشيخ الكردى فناداه يا شيخ كردى ، فوقف له مولانا الشيخ ضياء الدين ، وأجابه بأنه حفيد الشيخ الكردى ، فذكر له الشيخ زكريا أنه من تلاميذ الشيخ الكردى ، وصارت مودة لازمة فى الله تعالى ، وما زال أخواننا يودونه بالزيارة إذا نزلوا المدينة ، وذلك حتى بضع سنين خلت .
ومن طريف ما وقع أيضا من بضعة سنين أن مولانا الشيخ ضياء الدين كان له درس عقب صلاة العصر كل يوم السبت فى رمضان بمسجد بولاق– وهو المسجد الذى كان مولانا الشيخ محمد أمين الكردى يلقى دروسه فيه – وإذا بأحد المسنين من أهل الحى يقوم للسلام على مولانا الشيخ ضياء الدين بعد الدرس ، ويسأله إن كان يعرف شيخا اسمه الشيخ الكردى لأنه يشبهه جسما وصوتا وطريقة فى الدرس ، فأخبره مولانا الشيخ ضياء الدين بأنه جده .
وآخر من توفى من تلاميذ الشيخ الكردى من العلماء فيما بلغنا : الولى الصالح الشيخ على غراب رحمه الله تعالى ، حيث حضر على الشيخ الكردى دروسه بالأزهر ، وأصبح بعد ذلك من مريدى الشيخ سلامة العزامى ، وقد توفى الشيخ على غرابة فى حدود سنة 1400 هـ / 1980 م .
مؤلفات الشيخ الكردى
رغم أعباء الدعوة إلى الله تعالى ، فقد اشتغل مولانا الشيخ الكردى بالتأليف ، وترك لنا الكثير من المؤلفات النافعة .
وفى الحقيقة فإن مؤلفاته بحاجة إلى دراسة خاصة تفصيلية ، تكشف عن أصالتها ، ومنهجها الخاص بها ، ولكن فى نبذة سريعة نقول : إن مولانا الشيخ الكردى أحد قلائل العلماء المتأخرين الذين كتبوا فى علوم الإسلام دون أن يفصلوا بين دوائر الإسلام والإيمان والإحسان ، بل مزج بين هذه الدوائر مزجا يحتاج إليه الناس كثيرا ، ليتعلموا كيف يقرنوا الإيمان بالعلم ، والعلم بالعمل ، والعمل بالإخلاص ، ولا يتعلموا العلم تعلما جافا لا يقربهم من الله تعالى .
ومن جهة أخرى فإن كتابه تنوير القلوب ، والذى يأتى على ذورة مؤلفاته ، فيه من دقة العبارة ، واستخلاصها نتاج ما بحثه علماء الكلام فى القسم الكلامى ، أو علماء الشافعية فى القسم الفقهى وناقشوه فى شروحهم وحواشيهم وتقريراتهم ما لا يقدر قدره إلا من أراد أن يسبر غور مسألة من مسائل التوحيد أو الفقه فى كتب الأصحاب ويجمع أشتات الكلام فيها ويجهد نفسه أيما إجهاد فى المناقشات والترجيحات والاختلافات ، وإذا بمولانا الشيخ الكردى قد أتى بلب اللباب ، بعبارة عالية مع سلاستها ، وسلامتها من المناقشات اللفظية ، جامعة لما استقر عليه العلماء من الترجيح ، مع التدليل والتعليل .
فعبارته تجمع دقة المتون ، ووضوح الشروح ، والسلامة من الاعتراضات التى تذكر فى الحواشى ، رضى الله عنه وأرضاه .
ومن جهة ثالثة فقد كانت عناية مولانا الشيخ الكردى بالحديث الشريف ، وبيان أدلة المسائل كبيرة ، وقد زادها تحريرا وتخريجا سيدنا الشيخ نجم الدين الكردى .
ومن جهة رابعة فإن العصر الذى كتب فيه مولانا الشيخ الكردى مؤلفاته هو آخر عصر الحواشى والتقريرات الأزهرية ، وبداية عهد جديد فى التجديد فى طرق التأليف والتصنيف فى العلوم الإسلامية بعد الأزمة الحضارية العاصفة التى مرت بها الأمة الإسلامية إبان الاحتلال العسكرى والسياسى من دول الغرب لعامة دول الإسلام ، وقد أخذ التجديد فى التأليف مناحٍ شتى ، بين مبعد ومقرب ، بين محب لتراثه راغب فى التواصل معه نجح فى تواصله ذلك أو فشل ، وبين متنكر لتراثه مستكبر عليه لا يدع صلة له به إلا سارع بقطعها ونفيها .
ومن جهة خامسة فقد كان مولانا الشيخ الكردى مع كونه شافعيا لا يتعصب لمذهب ، ويتسع علمه ليشمل المذاهب الأربعة المتبعة ، ولهذا شملت العديد من مؤلفاته أحكام المذاهب الأربعة كما فى مرشد العوام لأحكام الصيام وفتح المسالك فى إيضاح المناسك ، بل إنه ألف كتبا لغير الشافعية ، كهداية الطالبين لأحكام الدين ، على المذهب المالكى .
ويأتى مولانا الشيخ الكردى ليكون من تلك الثلة القليلة من كبار علماء الأمة التى وعت بتراثها وعيا عميقا ، وأدركت الأزمة العاصفة بكل أبعادها ، وعملت جاهدة وواعية على مواجهة واجب الوقت ، ولهذا تجد فى كتبه العون التام من خلال قراءتها على الاتصال بكتب العلماء قبله ، وعلى اكتمال الرؤية لدى القارئ فى دوائر الإيمان والإسلام والإحسان ، بحيث لا يخل بأحدها . على حين تجد كتب مؤلفين آخرين تقطع صلتك بما قبلها ، ولا تعينك على فهمها ، ولا شك أن هذه الفترة الهامة من تاريخ أمتنا وأثرها على خطط التصنيف فى علوم الإسلام واتجاهاتها بحاجة إلى دارسة متعمقة ومتخصصة تجلو لنا المزيد من خصائص هذه المرحلة ، ومدى تأثير الشيخ الكردى فيها . على أننا إذا تأملنا رجال هذه المدرسة الأصيلة التى يقف الشيخ الكردى على رأسها نجد أن وفاة أغلبهم بعد وفاة الشيخ الكردى بعدة عقود مما يعنى أنهم تأثروا فيما تأثروا به بمنهج الشيخ رضى الله عنهم ، فمن هؤلاء خليفته مولانا الشيخ سلامة العزامى (1376 هـ) ، والشيخ محمد زاهد الكوثرى (1371 هـ) ، والشيخ يوسف الدجوى (1365 هـ) ، والشيخ محمد بخيت المطيعى (1354 هـ) ، والشيخ محمد حسنين العدوى المالكى (1355 هـ) ، وغيرهم من أعلام تلك المدرسة الشامخة العريقة .
وبعد فهذه سمات رئيسية تمتاز بها مؤلفات مولانا الشيخ الكردى فى عصرها ، وما بعده ، نرجو أن نكون قد أوفيناها بعض حقها فى هذه العجالة .
ومن أهم مؤلفاته :
1) إرشاد المحتاج إلى حقوق الأزواج . 2) تعريب رسالة أيها الولد ، أو خلاصة التصانيف فى التصوف للإمام الغزالى . 3) تنوير القلوب . 4) الحقيقة العلية فى مناقب النقشبندية . 5) سعادة المبتدئين فى علم الدين ، على المذهب الشافعى . 6) ضوء السراج فى فضل رجب وقصة المعراج . 7) العهود الوثيقة فى التمسك بالشريعة والحقيقة . 8) فتح المسالك فى إيضاح المناسك ، على المذاهب الأربعة . 9) مرشد العوام لأحكام الصيام ، على المذاهب الأربعة . 10) المواهب السرمدية فى مناقب السادة النقشبندية . 11) نصيحة البرية فى الخطب المنبرية ، ديوان خطب . 12) هداية الطالبين لأحكام الدين ، على المذهب المالكى .

تابع : بيت مولانا الشيخ محمد أمين الكردى 2
([1]) هذه الكلمة نشرتها كتصدير لكتاب مرشد العوام إلى أحكام الصيام ، القاهرة : مجموعة زاد الاقتصادية ، 1424 هـ / 2003 م ، بإذن من حفيد المؤلف مولانا الشيخ محمد نجم الدين الكردى ، وحقوق الطبع محفوظة له ، والذى كان لى شرف القيام بتصحيحها . وقد أضفت عليها هنا بعض الإضافات .
([2]) أشرنا أيضا إلى فضل أعلام هذا البيت (بيت مولانا الشيخ الكردى) عند حديثنا فى مقدمة جامع الأحاديث على تصوف الإمام السيوطى ، وتعرضنا لمعنى التصوف الحقيقى ، والنقد الذى وجهه العارف الشعرانى لمدعى التصوف ، وتناولنا فى هامش طويل أعلام من أدركناه من الشيوخ والعلماء والأكابر ، وعلى رأسهم أعلام بيت مولانا الشيخ الكردى ، انظر مقدمة الجامع (ص 104 – 108) ، كما يمكن الاطلاع عليه من خلال الرابط التالى : التصوف الحقيقى - الإمام السيوطى نموذجا - مقتطف من مقدمة جامع الأحاديث
([3]) ممن ترجم لمولانا الكردى أيضا : معجم المؤلفين (9/77) ، وذكر فى مصادرها : مجاهد فى الأعلام الشرقية 3/116 ، وفهرس الأزهرية 6/ 4 ، 5، 197 ، 329 ، والبغدادى فى إيضاح المكنون 2/ 131 . وترجمه أيضا : سركيس فى معجم المطبوعات 1554-1555 ، والدكتور محمد أحمد درنيقة فى كتابه : الطريقة النقشبندية وأعلامها ، ص 130-131 ، ط جروس برس ، 1407 هـ / 1987 م .

ليست هناك تعليقات: