الثلاثاء، ٢٨ أغسطس ٢٠٠٧

27- عدم الاستحياء من التوقف فيما لا يعلموه

27- ومن آدابهم رضى الله عنهم : عدم الاستحياء من التوقف فيما لا يعلموه ، أو فيما يكون هناك من هو أعلم به ، وإحالته عليه ، وهذا أدب راسخ فى مشايخنا رأيته على مولانا شيخ الإسلام ضياء الدين الكردى ، تأتيه الفتوى فيقول : اذهب للشيخ فلان هو أعلم بهذا ، أو لن يفتيك فى هذه المسألة أفضل من فلان ، يقول ذلك فى حضرة المريدين ، ولا يبال إلا بالحق ، وتعليم الناس الأدب ، ورأيت ذلك مرارا أيضا من سيدنا الشيخ سيف ، وسيدى حسين ، فرضى الله عنهم .

26- هضم النفس

26- ومن آدابهم رضى الله عنهم : هضم النفس ، واعتقاد الجهل فيها ، وهذا من الآداب السنية التى رأيت عليها سيدى الشيخ حسين الكردى ، فيلازمه ذلك الحال ، ويرى كل واحد من المريدين أفضل منه أدبا وعلما ، مع كونه معدودا من حيث العلم من الفضلاء ، ومن حيث الطريق من الأولياء ، ولكن حب الاستزادة من العلم والرغبة فى مزيد الأدب جعله يطلب ذلك من الجميع كبر شأنه أو صغر ، فاللهم انفعنا بملازمتهم .

25- تغليب نسبة الطريق على نسبة الطين

25- ومن آدابهم رضى الله عنهم : تغليب نسبة الطريق على نسبة الطين ، وهذا أدب عال ، فسيدنا الشيخ نجم الدين بالنسبة لأبنائه هو شيخهم ووالدهم الروحى ، قبل أن يكون والدهم الطينى ، ولهذا قلما تسمع أحد منهم يذكر سيدنا الشيخ نجم فيقول : والدى ، أو أبى ، بل دائما ما يقولون : سيدنا الشيخ نجم ، مثلهم فى ذلك مثل كافة المريدين ، وكذلك رأيت سيدى أحمد ضياء الدين الكردى ، لا يذكر سيدنا الشيخ ضياء أو جده سيدنا الشيخ نجم أو عمه سيدنا الشيخ سيف إلا هكذا بأنه سيدنا الشيخ . وسيرهم فى الطريق وتقديمهم أو تأخيرهم إنما هو بهمتهم وبجدهم واجتهادهم لا يركنون فى ذلك على نسبتهم الطينية ، لذلك فجميعهم بين عالم وولى ، لا يخرجون عن ذلك ، وهذا قلما يقع مثله ، والعادة أن يركن أبناء الشيخ أو العارف أو العالم لمكانة أبيهم ، وتفتر همتهم عن السعى إلى المعالى .

24 - العناية بتربية الأبناء من الصلب

24- ومن آدابهم رضى الله عنهم : العناية بتربية الأبناء من الصلب وعدم إهمالهم كما يقع لكثير من الشيوخ ، بل من آدابهم التى وجدت عليها سيدنا الشيخ نجم الدين التشديد فى تربية الأبناء سواء من الذكور أو الأناث بما ربما سامحوا المريد فيه ، ويحملونهم حملا على معالى الآداب والفضائل ، وهذا ما لمسته بنفسى فى العديد من المواقف ، وما تواتر إليه حكايته عن كافة أبناء سيدنا الشيخ نجم الدين رحمه الله تعالى ، بل امتد ذلك للأحفاد فتجد فيهم الكرم والمروءة والديانة والصيانة والعفاف والسعى فى مصالح الخلق ، والفرح بقضائها ، والحمية للطريق ، والحمية للعلم ، ومناصرة الشرع حيثما كان قولا وفعلا ، وبذل الجاه والمال فى وجوه الخير ، فاللهم بارك فيهم وفى ذريتهم إلى يوم الدين .

الأربعاء، ١٥ أغسطس ٢٠٠٧

23 - تقديمهم لمقدم كل قوم وإجلاله وتكبيره فى عيون أتباعه

23 - ومن آدابهم رضى الله عنهم : تقديمهم لمقدم كل قوم وإجلاله وتكبيره فى عيون أتباعه ومحبيه مراعاة منهم لمصلحة الطريق فى بقاء جماعة كل شيخ مجتمعين حوله ، وعدم انفضاضهم عنهم حتى ولو كان لشيخ أكمل ، فإن من انتقل عن شيخه كلما يثبت له قدم فى الطريق ، وهذا الأدب أدل دليل على أنهم يدعون الناس إلى الله لا إلى أنفسهم ، فإن المتمشيخ المدعى الذى يدعو الناس إلى نفسه يصير يريد أن يستولى على أتباع غيره ، ولا يطيق أن يراه مريدوه يجتمع مع شيخ غيره ، خشية أن ينجذب مريدوه إلى ذلك الشيخ الآخر ، أو يريد أن يظهر ويعلو على الشيخ الآخر ليجذب مريدين ذلك الشيخ إليه . أما المشايخ الصادقين الراغبين إلى الله وحده ممن أدركناهم من أكابر مشايخ الوقت كشيخنا سيدى الشيخ عبد القادر ومن نحا نحوه – على ما ذكرناه فى مناقبه حيث ذكرت نحو هذا الأدب - فرأيناهم لا يبالون بذلك . وأعظم من رأيت متخلقا بهذا سيدنا الشيخ سيف الدين الكردى رضى الله عنه ، وهذا من عظيم رسوخه فى العلم والطريق ، وقد كنت فى صحبته فى زيارة سيدى أبى الحسن الشاذلى فى أوائل ربيع الأول سنة 1428 هـ ، فلما انتهينا إلى الاستراحة التى سننزل بها وكان الوقت فجرا ، وجدنا بها بعض مشايخ الجيزة ، ممن كانوا قد قدموا قبلنا بيوم أو يومين وارتاحوا من عناء السفر ، فأحسنوا استقبالنا ، ولما تجهزنا لصلاة الفجر قدم سيدنا الشيخ سيف شيخ هؤلاء الجماعة لإمامتنا فى الصلاة فأم بنا جميعا ، وبعد الصلاة دعاه سيدنا الشيخ سيف للحديث فينا عن الطريق والدعوة إلى الله فظل الرجل يتكلم قرابة الساعة وسيدنا الشيخ سيف يشجعه على الكلام ولا يكاد يتكلم إلا قليلا رضى الله عنه ، ودعاه إلى زيارة بيت سيدنا الشيخ الكردى بشبرا ، وأخذ منه وعدا مؤكدا بذلك ، وطلب عنوانهم ببلدهم ليزورهم أيضا ، وهكذا المشايخ الكمل الصادقين إنما نظرهم إلى الله تعالى ، لا يغارون إلا للحق ، لا لأنفسهم ، فرضى الله عن سيدنا الشيخ سيف ، وعن سائر مشايخنا وسائر المشايخ الصادقين الداعين إلى الله بصدق وحق وجد .

22- القيام بالصلح بين الخصوم

22- ومن آدابهم رضى الله عنهم : القيام بالصلح بين الخصوم ، وحل المنازعات التى تقع بين الناس ، سواء فى أمور الزواج ، أو الميراث ، أو قضايا الثأر ، ورفع الشجارات التى تقع بين العوائل ، وقد جرى لسيدنا الشيخ نجم الدين ، ومولانا شيخ الإسلام ضياء الدين الكردى ، وسيدنا الشيخ سيف فى هذا الصدد العديد من الوقائع المشهورة ، والكبيرة ، حتى إن المحافظين والسلطات المحلية فى الأقاليم دائما ما كانت تلجأ إليهم إذا كان أحد أطراف القضايا أو الوقائع من مريدى النقشبندية ، وذلك لثقتهم فى نزاهة وعدالة ما يحكم به مشايخنا وما لهم من كلمة مسموعة ، فرضى الله عنهم .

21- السعى الدائم فى مصالح المريدين والأحباب

21- ومن آدابهم رضى الله عنهم : السعى الدائم فى مصالح المريدين والأحباب ، لا ينقطعون عن هذا ، وقد جعل الله على أيديهم قضاء مصالح الخلق ، فالله يجزيهم عن ذلك خير الجزاء .

20 - العناية الدائمة بالمريدين والأصحاب

20- ومن آدابهم رضى الله عنهم : العناية الدائمة بالمريدين والأصحاب ، ودوام السؤال عمن غاب منهم ، لعيادة من كان مريضا ، ومواساة من كان مصابا ، ونحو ذلك ، ويتحملون فى سبيل ذلك جهدا بالغا مع اتساع النقشبندية ، وانتشارهم فى بلاد مصر .

19- ألا يصدر شىء منهم إلا على ميزانه وأدبه

19- ومن آدابهم رضى الله عنهم : ألا يصدر شىء منهم إلا على ميزانه وأدبه ، سواء كان ذلك فى أمور المعاش أو المعاد أو الحل أو الترحال ، وهذا أدب عظيم لا يقوم به إلا الكمل من الرجال علما وعملا ، ولهذا فأنفع شىء للمريد هو ملازمة أمثالهم ملازمة تامة حضرا وسفرا ، فيسرى إليه أدبهم سريان الروح فى الجسد ، ويصير يتأدب وتتهذب نفسه شيئا فشيئا ، فإن التأديب والتربية بالحال أقوى منها بالقال ، فمن رباه شيخه بالكلام فحسب إنما يصير يعظ ويتكلم بالأدب ولا يفعله لأنه ما تعلم من شيخه إلا الكلام ، أما من رباه شيخه بالفعل يصير يفعل مثل شيخه ويأتسى به ، فتفتح له صحبة شيخه باب العمل ، إذا كان الشيخ صحيح العمل وليس من أهل البطالة ، فإن الشيخ إذا كان بطالا لم تفلح تربيته ولم يرب إلا البطالين ، وإذا كان مثل مشايخنا قد امتلأ علما وعملا وأدبا ودينا فإن من تربى عليه يصير كذلك كل بحسب استعداده ، وقد رأيت هذا جليا واضحا فيمن أكثروا من ملازمة مشايخنا .

18- طلب الصدق فى الطريق

18- ومن آدابهم رضى الله عنهم : طلب الصدق فى الطريق ، وهذا ملازم للأدب الذى قبله أو هما وجهان لعملة واحدة ، فمن صدق ترك الدعوى ، ومن ترك الدعوى صدق . ويترتب على كل منهما جملة من الآداب وجدت مشايخنا عليها : من ترك التكلف ، والتمشيخ المصطنع ، وعدم الالتفات إلى الكرامات ، أو السعى إلى حصولها ، أو تصوير ما قد يقع من الاتفاقات على أنه كرامات ، وترك الشطح ، وإظهار الأحوال ، أو التظاهر بالصلاح ، أو التصنع فى الزى أو الهيئة أو السمت ، إلى غير ذلك من الآداب التى يفوح بها سلوكهم اليومى فى حياتهم العادية وتصرفاتهم فى معاشهم .

17 - ترك الدعوى جملة

17 - ومن آدابهم رضى الله عنهم : ترك الدعوى جملة ، فلم أسمع من أحد منهم قط ادعاء مقام أو ولاية أو كشف أو صلاح أو غير ذلك ، بل لا يطلبون إلا الستر من الله ، وهذا من أعظم ما هم فيه من أدب وخلق رضى الله عنهم ، ولهذا فإن مشيختهم وسيادتهم حقيقية لا صورية ، ومتحققة بالفعل لا مدعاة ، وناموسهم ربانى إلهى عن غير تكلف ولا تصنع ولا سعى منهم ، وقد رأيت من عظيم كراهيتهم للدعوى أمرا عظيما فى وقائع لا تنتهى عظم فى نفسى أيضا كراهيتها جدا ، فانفعنا اللهم بصحبتهم .

16 - قطع طلب الولاية والمشيخة

16 - ومن آدابهم رضى الله عنهم : قطع طلب الولاية والمشيخة والمقامات والمعرفة عن المريد ، وتربيته على ألا يطلب إلا الله تعالى ، ولا يكون له مقصودا سواه ، وهذا الأدب هو لب الطريق وخلاصته .

15 - التواضع وعدم رؤية النفس

15 - ومن آدابهم رضى الله عنهم : التواضع وعدم رؤية النفس ، وهذا هو الخلق الغالب على سيدنا الشيخ سيف الدين محمد بن سيدنا الشيخ نجم الدين ، ويبلغ به التواضع إلى حد الذى يستحيى جليسه منه ويذوب حياء من سيدنا الشيخ ولا يدرى المريد إلى أين يذهب ، فإن من الواجب على المريد أن يتواضع لشيخه ، فإذا كان شيخه أيضا على جانب عظيم من مقام التواضع بات ذلك عظيما على نفس المريد فمهما يتواضع يجد شيخه أكثر تواضعا فيزيد المريد من تواضعه ، فيجد شيخه أكثر تواضعا ، فيزيد المريد من تواضعه وهكذا ، حتى تنمحى نفس المريد تماما وهنا تقبل نفسه الكمالات والفضائل ، وهذا باب عظيم فى التربية فتحه الله على يد سيدنا الشيخ سيف رضى الله عنه .

14 - عدم الأكل قبل أن يفرغ الأخوان والضيوف من أكلهم

14 - ومن آدابهم رضى الله عنهم : عدم الأكل قبل أن يفرغ الأخوان والضيوف من أكلهم ، وهكذا جرت عادة مشايخنا فى رمضان وغيره ، فآخر مائدة تمد هى مائدة سيدنا الشيخ بعد أن يفرغ الجميع ، ويطمأن إلى أن الجميع قد أكلوا وشبعوا . وقد رأيت مولانا شيخ الإسلام ضياء الدين الكردى رضى الله عنه يمر بنفسه بين الموائد يرحب بالأخوان ويلاطفهم وينظر إن كان ينقص أحدا منهم شىء رغم كثرة من يقفون على خدمة الضيوف ، إلا أنه كان يحب أن يطمأن على ذلك بنفسه رضى الله عنه .

13 - العناية بتصحيح العقيدة

13 - ومن آدابهم رضى الله عنهم : العناية بتصحيح العقيدة أبدا والتحذير من البدع والأقوال المحدثة ، والأمر الدائم بملازمة عقيدة أهل السنة ، والنهى عن بدع الوهابية والجماعات المحدثة .

12- ملاطفة الأخوان والضيوف

12- ومن آدابهم رضى الله عنهم : ملاطفة الأخوان والضيوف والبشاشة فى وجوههم جدا ، حتى سمعت مولانا الشيخ حسين رضى الله عنه يقول : ((الولى لا بد أن يكون ظريفا)) .

11- المثابرة للأخوان فى المجلس

11- ومن آدابهم رضى الله عنهم : المثابرة للأخوان فى المجلس فلا يقومون ما دام لأحدهم حاجة ، وذلك من عظيم أدبهم رضى الله عنه ، وهى من الآداب المحمدية التى ورثوها رضى الله عنهم .

10- العناية بالأغراب من طلبة العلم

10- ومن آدابهم رضى الله عنهم : العناية بالأغراب من طلبة العلم الذين يقدمون لتلقى العلم بالأزهر الشريف ، فيمدونهم بما يقدرون عليه من الأموال والمساعدات ، وييسرون لهم سبل الطلب بما يقدرون عليه من ذلك ، وكم تخرج فى بيت سيدنا الكردى من علماء قدموا إليه وهم طلبة صغارا واستمروا فيه إلى أن حصلوا على درجة الدكتوراة فى علوم الشرع المختلفة .

9- العناية بأهل العلم والفضل

9- ومن آدابهم رضى الله عنهم : العناية بأهل العلم والفضل وتقديمهم وتبريزهم ، ولهذا اجتذب طريقهم أكابر علماء الأزهر الشريف .

8- الاهتمام بتعلم الشرع

8- ومن آدابهم رضى الله عنهم : الاهتمام بتعلم الشرع ، والأحكام التى يجب أن يعتنى بها المسلم ، وكان سيدنا الشيخ الكردى قد بالغ فى العناية بذلك ، وصنف الكتب فى ذلك ، وأهمها كتابه الشهير : تنوير القلوب ، الذى قسمه إلى ثلاثة أقسام : العقيدة – الفقه – التصوف . ويعلم بمطالعة ترجمته المثبتة بأول تنوير القلوب والتى كتبها سيدنا الشيخ سلامة العزامى أن مولانا الشيخ الكردى قد عمر جميع وقته بالعلم والذكر والطريق ، لا ينى عن ذلك أبدا ، وجرى على ذلك سيدنا الشيخ نجم الدين ، فكان قد قسم وقته كل يوم إلى وقت لقراءة القرآن ومراجعة الحفظ ، ووقت لقراءة التفسير ، ووقت لختم القرآن بالقراءات ، ووقت لقراءة السيرة والحديث الشريف ، ووقت لقراءة الفقه ، ويبدأ يومه من بعد الفجر بالذكر النقشبندى ، وينهيه ليلا بقيام الليل ، وذلك بخلاف ما استقبال الأخوان والضيوف وقضاء حوائجهم ، والسفر فى الدعوة إلى الله إلى بلاد بحرى والصعيد ، وقد استمر على ذلك على مدى عقود طويلة ، ولم ينقطع عنه مع بلوغه سن عالية ، رضى الله عنه ، وقد ربى أبناءه على ذلك ، ومما أخبرنى به سيدى أحمد ضياء الدين عن والده سيدى شيخ الإسلام ضياء الدين الكردى فى هذا الشأن أن مولانا الشيخ نجم الدين أرسل بابنيه الأكبرين سيدنا الشيخ عبد الرحمن وسيدنا الشيخ ضياء الدين ، وهما طفلان فى السادسة والرابعة من عمريهما إلى أحد العلماء بالصعيد وكان يعمل ((محولجيا)) بالسكة الحديد ، وله أرض يقوم بزراعتها ، فكان يأخذهما معه حيثما ذهب ليحفظهما القرآن الكريم والمتون المبتدأة كأبى شجاع ، والآجرومية ، وجوهرة التوحيد ونحوها فلازماه نحو العامين حتى فرغا ، وهما منقطعين له تماما ، وهذه همة عالية فى طلب العلم وتعليمه للصغار وحملهم عليه ، ولهذا فلا تجد نظيرا لبيت سيدنا الكردى فى العلم والأدب والولاية والمعرفة ، فأبناؤه جميعا أصحاب علم وأدب ودين وصيانة وولاية لا يستثنى منهم أحد لا صغير ولا كبير ، حتى من استتر منهم ظاهرا بالعمل بغير علم كسيدى حميد الكردى ، وسيدى أحمد الكردى ، فتجد عندهما من العلم والأدب والفضل والولاية ما قصر عن حمله عشرات من حملة العالمية ، وهكذا رأيت سيدى حسن وسيدى حسين وقد تخرجا فى كلية الشريعة بالأزهر الشريف ، وهما أصغر أبناء سيدنا الشيخ نجم الدين ، مع انشغال الجميع بالطريق ومراعاة الأخوان والقيام عليهم ، والنصيحة الدائمة لهم ، واستفراغ الجهد فى الدعوة إلى الله ليل نهار ، فرضى الله عن الذى رباهم سيدنا الشيخ نجم الدين فقد كان وارثا محمديا كاملا بالمعنى الحقيقى للكلمة ، وليس كلمة مدح مما تقال فى تراجم الرجال . فالقطب الذى يدور عليه الأمر فى بيت سيدنا الكردى : ملازمة العلم والأدب .

7- قطع الالتفات إلى الكرامات قطعا تاما

7- ومن آدابهم رضى الله عنهم : قطع الالتفات إلى الكرامات قطعا تاما ، وعدم الانشغال بها ، وكنت بعد انتقال مولانا شيخ الإسلام ضياء الدين قد هممت بجمع ما يحكى عن مولانا الشيخ نجم الدين رضى الله عنه ، قبل ذهاب الباقين من أكابر أصحابه ، فلم يساعدنى على ذلك أحد لا سيدنا الشيخ سيف رضى الله عنه ، ولا أحد من كبار أهل الطريق ، ولم تتوجهت همتهم إلى جمع شىء من ذلك ، فرضى الله عنهم ، فإن الطريق عندهم ما هو بكرامات ، ولطالما سمعتهم يقولون : الكرامات لعبة أطفال ، الكرامات ربما يحتاجها المبتدئ لتجذبه إلى الطريق .

6- عدم الإلحاح على الناس فى دخول الطريق بلسانهم ، إنما يدعون إلى الطريق بأفعالهم وأحوالهم

6- ومن آدابهم رضى الله عنهم : عدم الإلحاح على الناس فى دخول الطريق بلسانهم ، إنما يدعون إلى الطريق بأفعالهم وأحوالهم ، وسمعت سيدنا الشيخ سيف رضى الله عنه يقول : ((أنا عمرى ما قلت لأحد معى فى العمل : تعال خذ الطريق)) ، مع كون كثير من المريدين إنما يأتون إلى الطريق بعد معاملة مشايخنا وأهل الطريق فى أسباب المعاش والدنيا فيجدون أدبا وعلما وظرفا ، فيجذبهم ذلك إلى دخول الطريق . مع كون مشايخنا لا يتركون نصح الخلق وتعليمهم على الدوام ، وقد جرت عادة مشايخنا على وجود ميعاد أو أكثر فى أغلب أيام الأسبوع يسافرون فيها إلى القرى والنجوع القريبة والبعيدة فى وجه بحرى وقبلى ، يعطون فيها دروس العلم والوعظ والتربية والأدب ، ويأخذون العهد على من يحب فى دخول الطريق ، فحياتهم كلها موقوفة على الدعوة إلى الله ، رضى الله عنهم ، والحمد لله أن حفظ لنا جانبا عظيما من دروسهم مسجلا بالصوت ، فكان ذلك بقاء الطريق وآدابه إلى ما شاء الله .

5- التحذير من تخليط المنتسبين إلى الصوفية وبدعهم

5- ومن آدابهم رضى الله عنهم التحذير من تخليط المنتسبين إلى الصوفية وبدعهم ، وكنت استأذنت مولانا شيخ الإسلام ضياء الدين الكردى فى زيارة الأولياء والصالحين ، فأذن لى وأوصانى بالعناية بآل البيت ، ثم قال : ((أحذر من الصوفية المخلطين ، فإن طريقنا يا بنى نظيف)) .

4- النهى التام عن الدخول فيما شجر بين الصحابة من فتن

4- ومن آدابهم رضى الله عنهم النهى التام عن الدخول فيما شجر بين الصحابة من فتن ، وأن ينبغى علينا أن نعتقد محبتهم جميعا ، وأن نترضى عنهم جميعا ، وأن نحذر من الدخول فيما وقع بينهم من خلاف ، ونكل ذلك إلى الله تعالى ، وقد أتى بعض المريدين إلى مولانا الشيخ حسين رضى الله عنه فوقع فى سيدنا معاوية بن أبى سفيان فحذره من ذلك تحذيرا شديدا ، وتكلم معه فى فضل الصحابة ، وأنه لا ينبغى لأحد أن يقع فيهم ، وبين له موقف أهل السنة من ذلك .

3- عدم الالتفات إلى طلب أى شىء غير الله

3- ومن آدابهم رضى الله عنهم عدم الالتفات إلى طلب أى شىء غير الله ، وأن من ذكر الله ليصبح وليا خرج عن الطريق ، ولم يذق طعم الولاية أبدا . وقد سأل مريد ذات يوم سيدنا الشيخ سيف رضى الله عنه عن شمس المعارف للبونى ، وكتب الفلك للشيخ الطوخى الفلكى ، وأن الصوفية يشتغلون بعلم الحروف والطبائع ونحو ذلك ، فنهاه سيدنا الشيخ سيف عن الاشتغال بذلك نهيا مؤكدا ، وقال له : كل هذا ليس من التصوف فى شىء ، بل هو سحر وشعوذة ، وأن من ذكر ليكون وليا خرج من الطريق ، فما بالك من ذكر لينال حظا من الدنيا ، فضلا عن أن يستعمل أسرار الحروف وحساب الجمل وعلم الطبائع ونحو ذلك لينال أغراض الدنيا وليظن الناس أنه متصرف فى الكون . وذكر سيدنا الشيخ سيف أنه وقف على شىء من هذه الكتب فأمر بإحراقها .

2- قطع جميع العوارض بالذكر النقشبندى بلفظ الجلالة

ومن آدابهم رضى الله عنهم قطع جميع العوارض بالذكر النقشبندى بلفظ الجلالة ، وجعل هذا الذكر هو أساس علاج جميع الأمراض ، ولا يكثرون على المريد من طرق الرياضات النفسية ، ولا يربونه إلا بالذكر المحض . وكنت كلما راجعت مولانا شيخ الإسلام ضياء الدين الكردى فى أمر ، يأمرنى بمواصلة الذكر وعدم الالتفات إلى شىء ، وأن الذكر سيحرق كل ذلك .

1- عدم اشتغال المريد فى أول السلوك بقراءة كتب القوم فى التصوف

1- من آدابهم رضى الله عنهم عدم اشتغال المريد فى أول السلوك بقراءة كتب القوم فى التصوف ، وهذا من أول الآداب التى تعلمتها من مولانا شيخ الإسلام ضياء الدين الكردى أول أخذى الطريق عليه فى حدود سنة (1408 هـ) ، فكنت أذهب إلى دار الكتب المصرية وأقرأ فى كتب النقشبندية ، وجمعت فى ذلك فهرستا خاصا بها ، وكنت أعرض ما يقف من ذلك عليه رضى الله عنه ، فتركنى قليلا أفعل ذلك ، ثم قال لى بعدها : ((الطريق ليس بقراءة ، القراءة تعطلك ، لا تقرأ)) ، فتعجبت وقتها لذلك جدا ، لكنى التزمت بالعمل بما أمرنى به شيخى ، ثم ظهر لى بعد سنين طوال الحكمة من ذلك ، وهو أن النفس إذا قرأت كلام القوم ومقاماتهم وأحوالهم تتشبع به ، وتدعيه ، وتتسور على ذلك دون سلوك حقيقى ، فيتلف المريد بالقراءة ، ولهذا فالسلوك على يد شيخ كامل هو الطريق الصحيح للسلوك .

بيت مولانا الشيخ محمد أمين الكردى (2)

ترجمة مولانا
الإمام المحدث الجليل
والمرشد الكبير فضيلة العارف بالله
الشيخ نجم الدين محمد أمين الكردى النقشبندى([1])
هو أستاذ العارفين ، وزين أولياء الله الصالحين ، وإمام المرشدين ، وقدوة السالكين ، المحدث الكبير ، والمرشد القدير ، الشيخ نجم الدين بن محمد أمين الكردى الإربلى النقشبندى الشافعى الحسينى ، ((شاه نقشنبد))([2]) عصره ، و ((فاروقى))([3]) زمانه ، و ((خالد))([4]) أوانه .
إذا ذكرت السنة الغراء فهو خادمها الأمين ، وناشر لوائها ، والداعى إلى التمسك بأهدابها ، وإذا ذكر الحديث الشريف فهو المحدث الناقد الثقة ، محقق نصوصه ، ومخرج أحاديه ، وشارح ألفاظه ومعانيه .
وإذا ذكرت الفضيلة كان هو رائدها ، وإذا ذكر التصوف كان هو الخبير بأمراض القلوب وعلاجها ، وغفلات النفوس ودوائها ، وإذا ذكر الإرشاد كان هو فارسه المقدم ، قائد المسترشدين إلى رب العالمين ، خالص النية لله ، سديد القصد ، على علم وهدى وبصيرة ، سبيله الحكمة ووسيلته الموعظة الحسنة ، آخذا بأيديهم نحو الكمال وحميد الخصال ، يغذوهم بلبان الشريعة ، ويفيض عليهم من أنوار الحقيقة ، نبراسه كتاب الله ، ومتبوعه سيدنا رسول الله ، صلوات الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين . أحسن الله جزاءه عما قدم للمسلمين ، وبارك فى خلصائه الأجلاء إلى يوم الدين .
مولده ونشأته المباركة :
ولد رضى الله عنه يوم الجمعة ، (29) محرم سنة 1325 هـ ، الموافق (25/3/1907) ، بحى بولاق حيث انتقل إليه والده الماجد من حى إمبابة . ووالدته رحمها لله من أسرة كريمة فى قرية كفر منصور من أعمال طوخ بمحافظة القليوبية ، تزوج منه الشيخ الكردى عام 1324 هـ (1906 م) ، وكناها ليلة بنائه عليها بأم نجم الدين . وكان الشيخ الكردى يتوسم فى ابنه أمارات الصلاح ، فكان كما رجاه ، وقد لقنه والده ذكر الله تعالى بالقلب وفق الطريقة النقشبندية ، على صغر سنه وكان يعجب الشيخ الكردى أن يراه جالسا جلسة الذكر متوركا مغمضا مطرقا آخذا فى الذكر القلبى، فيدعو الله له بالخير. وقد توفى عنه والده وله سبع سنين تقريبا .
حفظه القرآن والتحاقه بالأزهر الشريف :
حفظ مولانا الشيخ نجم الدين القرآن الكريم صغيرا ، وتلقى مبادئ القراءة والكتابة والنحو والعقيدة والعبادات على مذهب الإمام الشافعى ، ومبادئ الحساب والعلوم ، ثم ألحق بالأزهر الشريف ، وجلس ذات يوم وهو بعض زملائه من الطلبة ، فقال أحدهم : ليتمنى كل واحد على الله ما يريد تحقيقه ، فذكر كل واحد أمنيته ، وكانت أمانى دنيوية ، وتمنى الشيخ نجم الدين المعرفة والمغفرة ، فكان أن حقق الله تعالى لكل واحد منهم ما تمناه ، وأصبح الشيخ نجم الدين قطب عصره.
كما تتلمذ مولانا الشيخ نجم الدين على العلامة المحقق المحدث محمد زاهد الكوثرى ، فأخذ عنه علوم الحديث الشريف ورجاله ، وعلوم الجرح والتعديل ، حتى صار حجة فى هذا الميدان .
صحبته مولانا العزامى رضى الله عنهما :
قام مولانا الإمام العزامى([5]) بعبء الخلافة والإرشاد بعد وفاة سيدنا الشيخ الكردى ، ولما تحول مولانا الإمام العزامى إلى ريف مصر ناشرا الهداية والإرشاد ، لازمه تلميذه الكريم سيدنا الشيخ نجم الدين وتشرف بصحبته وخدمته ، ينهل من علومه وينعم بإمدادته .
وكان مولانا الشيخ العزامى يرى فى تلميذه المبارك استعدادا كبيرا من صفاء الجوهر ، وطهارة الظاهر والباطن ، والإقبال على الذكر والفكر والعلم والطاعات ، عالى الهمة ملازما لصحبة شيخه وخدمته ، مراعيا كمال الأدب مع حضرته ، فأخذ الشيخ العزامى يهيئه لخلافته من بعده .
وكان من عادة سيدنا الشيخ نجم الدين إذا اشترى كتابا أن يشترى نسختين ، أحدهما لنفسه ، والأخرى لشيخه العزامى .
وكانت الصلة الروحية والفكرية والعلمية بين الشيخ العزامى وتلميذه النجيب على أشد ما تكون توثقا ، ومن لطيف ذلك أنه ما سئل أحدهما فى مسألة فى غيبة الآخر فأجاب بما يخالف الآخر بل إن عبارتهما تكاد تكون واحدة .
إجازة شيخه له بالإرشاد وتوليه له بعده :
أجاز الشيخ العزامى تلميذه الإرشاد ، وبجميع ما تلقاه فى علوم الظاهر والباطن ، كما أحال تربية كثير من المريدين فى حياته ، ولما انتقل الشيخ العزامى إلى رضوان ربه يوم الأحد (12) من المحرم سنة 1376 هـ ، احتشد المشيعين وبايعوا الشيخ نجم الدين الكردى ، فبايعه أولا من بقى على قيد الحياة من خلفاء والده كالعارف بالله وافى عبد الصمد ، والعارف بالله الشيخ إبراهيم ناجى ، ثم بايعه خلفاء الشيخ العزامى وكبار العلماء من مريديه ، كالشيخ محمد البسيونى زغلول الأستاذ بكلية الشريعة ، والشيخ إبراهيم عجلان من كبار العلماء وإمام مسجد سيدنا الحسين ، وأ.د زكى الدين شعبان رئيس قسم الشريعة بحقوق عين شمس ، وأ.د عبد العظيم على الشناوى رئيس قسم اللغويات بكلية اللغة العربية ، وفضيلة الشيخ إبراهيم الدسوقى وزير الأوقاف الأسبق ، وأ.د عبد العظيم جودة فياض رئيس قسم الفقه الحنفى بكلية الشريعة ، وغيرهم من العلماء ، وسائر الأخوان .
قيامه بأعباء الخلافة النقشبندية :
كان رضى الله عنه عالما بما يحتاج إليه المريد من الفقه والعقائد والتصوف ، عارفا بأمراض القلوب وسبل علاجها ، رؤوفا بالمسلمين ، شفيقا بالمريدين ، يتلطف فى معاملتهم ، ويسألهم عن أحوالهم ومتعلقاتهم ، ويبذل لهم النصح ، ويعاونهم بما قدر عليه من جهد أو مال أو جاه ، ولا يكلف أحدا بما هو فوق طاقته ، ويستر ما اطلع عليه من عيوبهم ، ويحذرهم من تأخير الصلوات ، أو التهاون فى الواجبات ، كما يحذرهم من الانهماك فى المباحات والذى يؤخر سير المريد إلى الله عز وجل .
عقيدته رضى الله عنه :
كان رضى الله عنه على عقيدة أهل السنة والجماعة ، حريصا على غرس العقيدة الصحيحة فى النفوس ، يرى بحق أن فى الإسلام ما يحقق سعادة الفرد وصلاح المجتمع ، وأنه صالح لكل زمان ومكان ، كما كان يعتقد أن الإسلام نظام كامل دين ودولة ، لا يندرج تحت أى مذهب اجتماعى أو اقتصادى أو سياسى ، وأنه بحاجة إلى باحثين أكفاء أمناء ليكشفوا عما فى الإسلام من خصائص .
مذهبه الفقهى :
كان رضى الله عنه شافعى المذهب عالما بالأصول والفروع ، يعمل بأرجح الأقوال فى المذهب ، ويجل أئمة المذاهب الأربعة ، ويحترم علماءها ، وكان على دراية بأحكام كثيرة فى المذاهب الأربعة ، يفتى بها أحيانا إذا رأى فيها تيسيرا على المستفتى ، بشرط عدم التلفيق ، فقد كان رضى الله عنه يرى جواز تقليد أحد المذاهب الأربعة ، لكنه لم يكن يجيز التلفيق ، وهو تقليد إمام فى جزئية ، وإمام آخر فى جزئية فى العمل الواحد ، بحيث يتم على وجه لم يقل به أى مذهب من المذاهب . وكثيرا ما كان يحذر الناس من مدعى الاجتهاد والتجديد الذين ظهروا ليفتوا الناس بغير علم ، فضلوا وأضلوا .
وكان رضى الله عنه دائم الدعوة للتمسك السنة ، وكثرة المطالعة فى الأحاديث الشريفة ، ويحذر من أقوال المشككين فى السنة النبوية . وكان يؤكد دائما على أن سبيل الوصول إلى الله هو العقيدة السليمة والعمل بالشريعة الغراء . وكان يحذر مما يقع فى بعض الموالد والمناسبات الدينية من البدع والمنكرات مما يفعله بعض الجهلة المنتسبين إلى الطرق الصوفية ، خاصة اختلاط النساء بالرجال .
مولانا الشيخ نجم الدين وتقدير علماء عصره له :
أكبر تقدير من علماء عصره له أن كثيرين منهم كانوا مريدين له ، ومن لم يكن له مريدا كان محبا له ، ساعيا لزيارته ، مقدرين علمه وفضله ، من هؤلاء فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر ، والمرحوم الشهيد الدكتور محمد حسين الذهبى ، وكانت آخر زيارة له للشيخ نجم الدين قبل استشهاده بخمسة أيام ، وقد تعجب الحاضرون عندما غادر الدكتور الذهبى منزل الشيخ من ظهور علامات الحزن على وجه شيخنا ، وزال عجبهم عند علموا بعدها بنبأ استشهاده .
وكان من زواره ومحبيه فضيلة أ.د محمد الطيب النجار رئيس جامعة الأزهر الأسبق ، وأ.د عبد الغنى عبد الخالق الأستاذ بكلية الشريعة ، والمرحوم العارف بالله الشيخ صادق العدوى والد العالم الفاضل الشيخ إسماعيل صادق العدوى خطيب الجامع الأزهر ، ومولانا العارف بالله الشيخ الكبير صالح الجعفرى خطيب الجامع الأزهر ، والشيخ العارف بالله محمد أبو العيون الأستاذ بكلية أصول الدين وشيخ الطريقة الخلوتية والذى أصر على تلقى الطريقة النقشبندية على مولانا الشيخ نجم الدين ، ولا عجب فإن ذوى البصيرة والفضل يعرفون الفضل لذويه ، رضوان الله تعالى من توفى منهم ، وأمد الله فى عمر الباقين منهم ونفع بهم . كما كان شيوخ مشايخ الطرق الصوفية دائمى الصلة بمولانا الشيخ نجم الدين ، دائمى الزيارة له كالشيخ محمد السطوحى بحبح ، والشيخ الدكتور أبو الوفا الغنيمى التفتازانى رحمة الله على الجميع . ومن جهة أخرى كانت الصلات لا تنقطع بين مولانا الشيخ نجم الدين الكردى ، وسائر مشايخ الطرق الأخرى الذين كانوا على نفس مشرب مولانا الشيخ نجم الدين من التمسك بالشريعة والسنة الشريفة ومحاربة البدع والمنكرات ، كالعارف الكبير الشيخ محمد زكى إبراهيم ، والعارف الشيخ صالح الجعفرى ، والعارف الكبير الشيخ محمد عبد الجواد الطيب والد أ.د أحمد محمد عبد الجواد الطيب المفتى السابق ، ورئيس جامعة الأزهر الحالى ، وغير ذلك من البيوت الدينية الكبيرة بمصر كبيت الشيخ عبد الخالق الشبراوى ، والشيخ جودة عيسى ، والشيخ الدمرداش ، بالإضافة إلى الصلات الوثيقة مع الكثير من كبار المشايخ والعلماء فى العالم الإسلامى .
تلاميذ مولانا الشيخ نجم الدين الكردى :
ذكرنا فيما تقدم من بيعته بالخلافة بعض من بايعه من كبار المريدين والعلماء والذين بايعوه شيخا لهم ، ومن تلايذه أيضا ومريديه بخلاف من تقدم :
1) الأستاذ الدكتور عوض الله حجازى رئيس جامعة الأزهر الأسبق .
2) الأستاذ الدكتور بدوى بعد اللطيف رئيس جامعة الأزهر الأسبق .
3) الأستاذ الدكتور طه محمود الدينارى عميد كلية الشريعة الأسبق .
4) الأستاذ الدكتور جاد الرب رمضان عميد كلية الشريعة الأسبق .
5) الأستاذ الدكتور كامل الخولى عميد كلية اللغة العربية الأسبق .
6) الأستاذ الدكتور سيد عبد التواب عميد كلية البنات بالأزهر الأسبق .
7) الأستاذ الدكتور محمود فرج العقدة الأستاذ بكلية اللغة العربية .
8) الأستاذ الدكتور رياض هلال الأستاذ بكلية اللغة العربية .
وغيرهم عشرات من العلماء والأفاضل ممن لا يحضرنا ذكرهم الآن .
صفاته ومكارمه :
كان رضى الله عنه قمحى اللون ، ربع القامة إلى الطول أقرب ، يرتدى زى العلماء الجبة والعمامة على طربوش مغربى ، ويضع شالا على كتفيه ، ذو لحية خفيفة عملا بالسنة ، لا يصافح النساء ، مقتصدا فى حياته ونفقته ، لا يحب السرف ، ولا الغلو ، ولا الترف . وكان رضى الله عنه شديدا أشد الحرص على التأسى بمتبوعه الأعظم صلى الله عليه وسلم ، على أسمى جانب من الكرم والجود والحلم ، ورعاية الأهل والأقارب والجيران . من أبرز صفاته التواضع ، والرفق ، يحب العلماء وطلبة العلم دائم الاهتمام لأمور المسلمين . داره دار ضيافة دائمة لا ينقطع عنها زواره ومريدوه ومحبوه ، يأوى إليها طلبة العلم يستزيدون من مكتبته العامرة ، ويمد لهم يد العون المادى والمعنوى والعلمى .
ومن صدقاته الخفية التى أظهرتها الأيام أنه كان رضى الله عنه يشجع الباعة الفقراء على السعى فى الرزق الحلال وعدم السؤال ، يشترى منهم ما لديهم من السلع بأزيد من الثمن على سبيل الصدقة الخفية ، وكم من فقير تكفل رضى الله عنه بكافة نفقات زواجه من مهر وسكن وملابس … إلخ . وبعد وفاته ظهرت كثير من الأسر التى كان يعولها سرا ، لفقد عائلها أو أقعدهم المرض والشيخوخة ، أو ضاقت بهم سبل الرزق ، ولا يعرف أحد بذلك .
وكان قلبه دائما معلق بالله ، ووقته كله لله ، إما فى إلقاء درس ، أو عمل ختم (جلسة الذكر النقشنبدية) ، أو تعليم الطريق ، أو القيام بمهام الإرشاد ، أو قضاء مصالح المريدين وحل مشكلاتهم ، والسعى فى مصالحهم ومصالح أهله ، فإن لم يكن شىء من ذلك أخذ فى تلاوة القرآن الكريم أو الاستماع إلى تلاوته ، وقراءة كتب العلم ، وخاصة التفسير والحديث واللذين كان له بهما عناية خاصة . وكان له فى اليوم ثلاثة ختمات للقرآن الكريم ، ختمة لنفسه منفردا ، وختمة مع أحد مريديه من حفظة القرآن ، وختمة أخرى مع التفسير . وقد حج رضى الله عنه ثلاث مرات ، واعتمر كثيرا .
وكان فى دروسه العلمية حريصا على سهولة العبارة ، بحيث لا يعجز عن فهمه الصغير والكبير .
وقد حرص على تربية أبنائه تربية صالحة ، وغرس فيهم الروح الدينى ، وألحق أغلبهم الأزهر الشريف ، حتى صاروا من كبار علمائه ، وحرص حرصا بالغا على ترقيتهم الترقية الروحية ، وتهيئتهم للإرشاد والخلافة لما فيهم من القابلية والاستعداد الحقيقى ، وجميعهم بفضل الله من أهل الكمال والتربية العالية ، نفع الله بهم المسلمين وبارك لنا فيهم ، وهم :
1) مولانا العارف بالله الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الكردى (محمد عبد الرحمن بن نجم الدين بن محمد أمين الكردى) ، نائب رئيس جامعة الأزهر الأسبق ، وأحد كبار أساتذة كلية اللغة العربية ، رحمه الله تعالى ، والذى تولى أعباء الخلافة النقشبندية بعد وفاة مولانا الشيخ نجم الدين الكردى ، وتوفى بعده بحوالى عامين (1408 هـ/ 1988 م) .
2) الشيخ الصالح علاء الكردى (علاء الدين بن نجم الدين بن محمد أمين الكردى) ، وكان رحمه الله تعالى من نوابغ طلبة الأزهر ، وتوفى شابا فى حياة والده فى الثمانينات من القرن الهجرى الماضى .
3) مولانا شيخ الإسلام العارف بالله الأستاذ الدكتور ضياء الدين الكردى (محمد ضياء الدين بن نجم الدين بن محمد أمين الكردى) ، رئيس قسم العقيدة بكلية أصول الدين ، أعجوبة وقته فى العلم والمعرفة وسعة الاطلاع على مذاهب المتقدمين والمعاصرين ، مع المشاركة التامة والقوية فى كافة علوم الإسلام على طريقة علماء الأزهر القديمة ، والاطلاع الواسع على الثقافة الحديثة ، والفكر الغربى ، والأدب ، رضى الله عنه فكان بحق شيخ الإسلام فى وقته ، والوارث المحمدى الكامل ، قائما بالحق ، لا يرده عنه لومة لائم ، ناصحا لولاة الأمر بما يجب ، وكان محل ثقتهم واستشارتهم الدائمة ، وقد تولى أعباء الخلافة النقشبندية بعد وفاة مولانا الشيخ عبد الرحمن الكردى ، فقام بها خير قيام ، فسلك بالمريدين طريقة الجد والعزم ، مع الهيبة والجلال ، وانتقل رضى الله عنه إلى رضوان الله تعالى (17 من ذى القعدة سنة 1422 ، الموافق 31/1/2003) .
4) مولانا العارف الكبير بركة الوقت سيدى الشيخ المستشار الدكتور محمد نجم الدين الكردى ، نفعنا الله به ، وأمد فى عمره ، وأعانه على أعباء الإرشاد والخلافة النقشبندية .
5) الولى الصالح الخفى التقى مولانا الشيخ حميد نجم الدين الكردى حفظه الله تعالى ونفعنا به .
6) الولى الكبير ، فضيلة الشيخ أحمد نجم الدين الكردى ، صاحب الأحوال السنية ، أحد القلائل الذين يربون المريدين إلى اليوم من طريق الخدمة ، ويرقونهم منها إلى معرفة الله تعالى ، والتخلى عن الأخلاق الردية ، والتخلق بالآداب العلية ، وهى من أصعب طرق التربية وأخفاها ، نسأل الله تعالى أن يبارك فيه وينفع به .
7) فضيلة الشيخ الفاضل حسن نجم الدين الكردى ، القاضى بوزارة العدل .
8) فضيلة الشيخ الفاضل حسين نجم الدين الكردى ، وكلاهما تخرج فى كلية الشريعة بالأزهر الشريف ، وعليهما من الأنوار البهية ما يطالع الناظر ، ولهما من الأخلاق السنية ما يدركه المخالط ، إذا رأيتهما ذكرت الله تعالى ، مع قوة التأثير فى القلوب ، نسأل الله أن يبارك فيهما وينفع بهما ويزيدهما من فضله .
مرض مولانا الشيخ نجم الدين الكردى ووفاته :
أصاب المرض مولانا الشيخ نجم الدين ولازمه سنين حياته الأخيرة ، حتى انتقل إلى رضوان الله تعالى عقب فجر يوم الجمعة السادس والعشرين من ذى القعدة سنة (1406 هـ / 1986 م) ، رحمه الله تعالى .
نسأل الله تعالى أن ينفعنا بمشايخنا ، ويبارك لنا فيهم ، ويحشرهم وكل محبيهم على حوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ويظلهم بظله يوم لا ظل إلا ظله ، اللهم آمين .
وكتبه
عصام أنس
القاهرة ، فى شعبان
1424 هـ / أكتوبر 2003م
([1]) المصدر : ترجمة مولانا الشيخ نجم الدين الكردى ، كتبها الأستاذ محمد بسام سعيد ، أحد مريدى الشيخ العزامى ، ثم الشيخ نجم الدين ومن المقربين منه ، والملازمين له لعدة عقود ، وقد أمهرها بتاريخ رجب الفرد 1407 هـ ، فقد كتبها بعد وفاة مولانا الشيخ نجم الدين بعدة أشهر ، إلا أنه لم يتمها فقد ترجم لعنوان : مؤلفاته والكتب التى حققها وشرحها وعلق عليها ، ثم وقف عند ذلك ، وهى نسخة خطية محفوظة بمكتبة البيت العامرة ، فى 33 صفحة . وقد اختصرنا منها الترجمة المثبتة هنا ، نظرا لصغر حجم الكتاب آملين أن يوفق الله لنشرها كاملة قريبا.
([2]) إشارة إلى مولانا بهاء الدين شاه نقشبند ، رأس السلسلة النقشبندية . انظر : خلاصة المواهب، ص 52.
([3]) إشارة إلى مولانا أحمد الفاروقى السرهندى مجدد الألف الثانية . انظر : خلاصة المواهب ، ص 73.
([4]) إشارة إلى مولانا خالد ضياء الدين مجدد الطريقة وناشرها بالشام والعراق وتركيا . انظر : خلاصة المواهب ، ص 90.
([5]) له ترجمة ضافية ، كتبها بعض تلاميذه ، طبعت فى مقدمة كتابه الأنوار الساطعة فى رد بعض البدع الشائعة .

بيت مولانا الشيخ محمد أمين الكردى (1)

بيت مولانا
الشيخ محمد أمين الكردى
الإمام العلامة الولى الكبير محمد أمين الكردى أحد أعلام مصر فى القرن الماضى ، وأسس بها بيتا من أهم بيوت العلم والدين بمصر فى الوقت الحاضر ، يذكرنا ببيت السبكى والبلقينى ، ونحوها من بيوتات العلم بمصر وغيرها من أقطار الإسلام ، والتى حمل أجيالها لواء العلم والدين([1]) .
وكان بعد الشيخ الكردى نجله : الإمام الكبير سيدنا الشيخ نجم الدين محمد أمين الكردى رضى الله عنه (ت 1406 هـ / 1986 م) ، والذى توفى والده وهو صبى صغير ، ثم تولى مشيخة الطريق بعد مولانا الشيخ سلامة العزامى خليفة سيدنا الشيخ الكردى .
وسوف نفرده بالترجمة بعد ترجمة أبيه إن شاء الله ، والذى خلف بعده من الأبناء من هم بحق درة هذا العصر ، فكان منهم من أكابر علماء الأزهر الشريف : مولانا الشيخ الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الكردى (محمد عبد الرحمن بن نجم الدين بن محمد أمين الكردى ت 1408 هـ / 1988 م) نائب رئيس جامعة الأزهر والأستاذ بكلية اللغة العربية ، ومولانا شيخ الإسلام ضياء الدين الكردى ( محمد ضياء الدين بن نجم الدين بن محمد أمين الكردى ، ت 1422 هـ / 2002 م) أستاذ العقيدة والفلسفة بأصول الدين ، والذى كان رضى الله عنه عازفا عن المناصب العليا ، مع كثرة ترشيحه لها ، ومولانا العارف بالله بركة الوقت فضيلة الدكتور محمد نجم الدين الكردى ، من كبار علماء الأزهر الشريف ، والمستشار بوزارة العدل ، حفظه الله تعالى ، ونفعنا به فى الدارين ، وأمد فى عمره .
ولمولانا الشيخ نجم الدين غير ذلك من الأبناء ، وجميعهم من أهل الأدب والعلم ، وأكثرهم تلقى العلم بالأزهر الشريف ، نسأل الله لهم الزيادة من فضله .
هؤلاء هم أبناء الشيخ الكردى ونوافله من صلبه([2]) ، وأما أبناؤه بالتربية فألوف كثيرة ، والذين حملوا راية العلم والدعوة منهم عشرات فى مصر والشام والهند وبلاد جنوب شرق آسيا وغيرها .
وبيت الشيخ الكردى جدير بحق بأن يكون محل دارسة متخصصة تبين أثره فى العلم ، والدعوة ، والإرشاد ، والجماعة العلمية الإسلامية بصفة عامة ، والجماعة العلمية الأزهرية بصفة خاصة ، فقد كان للبيت موقفا متميزا من تطوير التعليم الأزهرى ، كما شارك علماء البيت فى وضع مناهج العديد من الجامعات الإسلامية فى العالم ، وكانت مكتبة البيت العامرة محط أنظار الدراسين وطلبة الماجستير والدكتوراة ، كما كان للبيت مواقفه الرائعة تجاه شتى قضايا العصر التى ثارت فى العقود الأخيرة . نسأل الله تعالى أن يوجه أنظار أحد الباحثين لدراسة أثر هذا البيت فى الحياة العلمية والدينية .
عود على بدء :
وإذا عدنا للحديث عن مولانا الشيخ محمد أمين الكردى رضى الله عنه ، فنذكر أنه قد ترجم له الزركلى فى الأعلام (6/43) بترجمة مختصرة فأجحفه حقه ، عادته مع كل من لم يكن على مشربه أو من بلده ، ولا يبين ما كان لهم من أثر فى الحياة العلمية والدينية والاجتماعية فى عصرهم ، بخلاف من كان على مشربه فإنه يفخم أمرهم ، ويبالغ فى تقديرهم ، وخلع أوصاف الإصلاح والاجتهاد عليهم .
على أن الشيخ سلامة العزامى - والذى كان من كبار علماء الأزهر ، ومن كبار مريدى الشيخ الكردى ، وقد تولى الإرشاد ومشيخة الطريقة بعده - قد ترجم لشيخه بترجمة ضافية طبعت فى أول كتاب تنوير القلوب([3]) ، ومع تداول الكتاب فلا حاجة لإيرادها بتمامها هنا ، ولكن لنقتبس منها ما يليق بالمقام ، مع إضافات يسيرة ، ونردفها بترجمة مناسبة لمولانا الشيخ نجم الدين الكردى رضى الله عنه .
ترجمة
مولانا الشيخ الكردى
قال الشيخ سلامة العزامى رحمه الله تعالى :
هو شيخ شيوخ العصر وقدوة جهابذة كل مصر ونور أضاء من عين المنة الإلهية على هذا القطر . أفرغت عليه خلع الرشاد النبوى والإرشاد المحمدى وكان أحق بها وأهلها . وقد فاز من الوراثة لسيد النبيين صلى الله عليه وسلم بالنصيب الأوفى . ولد هذا القطب الكبير فى النصف الثانى من القرن الثالث عشر من الهجرة بمدينة إربل وهى من المدن الشهيرة بالعراق ، وشب فى حجر أبيه ، والذى كان له اشتغال بالعلم والدين على قدم راسخة فى الطريقة العلية القادرية ، وتعلم من القرآن والعلم ما شاء الله ولم يلبث أن اجتذبته يد العناية الربانية وغمره صيب الألطاف الإلهية على يد شيخه القطب الأكمل مولانا الشيخ عمر ابن مولانا الشيخ عثمان الطويلى شيخا الطريقة النقشبندية ببلاد الأكراد بالعراق . وقد صحب شيخه عدة سنوات يشمر فيها عن ساعد الجد ، ويبذل فى المجاهدة فى الله أقصى جهد ، يوفى كل ذى حق حقه ، ويقوم لمولاه بدوام الذكر والعبودية ، ويوفى لشيخه بحقوق الصحبة ويخدم إخوانه ويصحبهم بحسن العشرة . وقال الأستاذ رضى الله عنه : (كنت فى زمن صحبة الشيخ لا أفتر عن خدمة الإخوان وتعهد المرضى ولا تأنف نفسى من غسل الأذى عنهم ولا أحمل أحدًا من الإخوان شيئاً من أثقالى) يبتغى بذلك فضلا من الله ورضوانًا ، وعلى هذا القدم كان مولانا الشيخ عبيد الله أحرار ، حتى قال : ((ما أدخلونى إلا من باب الخدمة)) .
ثم تاقت نفسه المباركة إلى الحج وزيارة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم ، فسافر عازمًا على أن يعمر الأوقات كلها بالمراقبة والأذكار ما دام بمكة ، وقد أقام بها سنة كاملة موفيًا لربه بما عزم عليه ، قال : ولم أكن أبالى بشىء فى طلب الحق ، الصعب فى ذلك صار بفضل الله سهلا ... ولما قضى نسكه انبعث إلى زيارة النبى الأكرم صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك عام (1300 هـ) فأقام بالمدينة سنوات . وعكف على تلقى الدروس والتحق بالمدرسة المحمودية وبرع فى العلم والفهم حتى ألقى الدروس بالمسجد النبوى بعد قليل ، وعرف بالفضل والصلاح ، وتزوج إذ ذاك بإحدى فضليات الأتراك خطبته إلى نفسها ولم يرزق منه بشىء من الولد وكان طول إقامته بالمدينة يحج كل عام .
رحلته رضى الله عنه
إلى الديار المصرية
ورحل إلى هذا القطر زائرًا كريمًا وضيفًا عزيزًا لم تشهد مصر مثله فى الولاية وافدًا من زمن غير قصير ، والتحق بمعهدها العلمى الأكبر ((الجامع الأزهر)) وانتسب برواق الأكراد ، وأقبل على الاشتغال بالفقه والحديث ، فحضر دروسًا فى البخارى على أستاذ المحققين الشيخ محمد الأشمونى المتوفى فى أوائل العقد الثالث من هذا القرن ، وأخذ الفقه على الشيخ مصطفى عز الشافعى ، وغيره من أفاضل الوقت ... وسكن ((امبابة)) وهى قرية قريبة من مصر ، وكان يخرج منها كل يوم قبل الفجر ليشهد الفجر بمصر ومنها تأهل ، ورزق من أهله هذه عدة أولاد أناث وذكور ، لم يعش منهم بعده إلا أحمد ، وتوفى بعد والده ببضع سنوات فيها أتم حفظ القرآن الكريم ، والتحق بطلبة الأزهر ، وكانت وفاته رحمه الله تعالى برصاصة من يد إنجليزى فى أثناء هذه الحوادث الشديدة التى شجرت بين المصريين والإنجليز ، ثم بدا له رضى الله عنه أن يتحول بأهله إلى بولاق مصر ، فكانت مسكنه حتى لحق بالله عز وجل ، وكان رضى الله عنه شديد التعلق بعلم الحديث والتفسير ، ولذلك كان يثابر حتى السنوات الأخيرة من حياته على درس شيخ الإسلام شيخ الجامع الأزهر سليم البشرى ، سمع عليه الكثير من الصحيحين ... وكان شيخ الإسلام حسن الاعتقاد فى الشيخ يجله ويطلب منه الدعاء كثيرًا ، ويقول : العالم بخير ما بقى هذا الشيخ . ثم اشتغل بالإفادة والتدريس ببولاق ، ودَرَّس الحديث والفقه والكلام ، واتفق أن مرض إمام مسجد السنانية وهو ببولاق قريب من البحر مرضًا لا يستطيع معه القيام بوظيفته ، فناب الشيخ عنه فيها خمس سنوات تقريبًا لا يأخذ من راتبها شيئًا يؤدى الوظيفة ، ويعطى راتبها كله للأصلى لحاجته وفقره .
مبدأ اشتغاله بالإرشاد بمصر
ثم غلبت عليه نسبة أشياخه الأكابر النقشبندية ، وفجأه من الواردات النورانية الربانية ما قهره على القيام بحقوق النيابة عنهم . دعا الناس إلى الله ليلا ونهارًا ، وسافر من أجل ذلك إلى الكثير من المدن والقرى ... وتفنن فى أساليب الإرشاد إلى الله تعالى صابرًا محتسبًا ، فتارة بحاله ، وأخرى بمقاله وطورًا بماله ، لا يدخر وسعًا فى بذل النصيحة للمسلمين . وكان من سيرته مع المنسوبين إليه ما كان من سيرة متبوعه الأعظم صلى الله عليه وسلم ، يؤلفهم ولا ينفرهم وينزلهم منازلهم ، ويستر عوراتهم ، ويذكر محاسن كل منهم للآخر يؤلف بينهم فى الله ، ويجمعهم على الله فيشغل جلساءه بسماع القرآن أو بالذكر أو مذاكرة العلم النافع ، ولا يحب للمريد أن يتجرد للذكر عما أقامه الله فيه من حرفة أو تدريس أو تعلم ويأمره بالجمع بين المحافظة على ما تيسر من الذكر والإقامة على ما هو عليه من تقوى الله ومراقبته فيما أقامه فيه . وكان رضى الله عنه لا يسأم من تكرير المواعظ ولا ييأس من هداية غوى كأن الإرشاد جبلة فيه جبله الله عليها ، فى رفق وتواضع تعلوه مهابة ووقار . مر ونحن معه فى سفرة على جماعة يلعبون بالنرد أو غيره لا أتذكر الآن لعبتهم فما زادهم على أن قال : (أنتم تلعبون الميسر!) فما رئى أحد منهم لاعبًا بعدها ... ومر مرة على عرس فيه منكر فتغير قلبه لذلك وكان يشمئز من المنكرات ، فقال لمن معه من أهل البلد : ألا تمنعون هذا ؟ فذكروا له من فجور صاحب العرس وفسقه ، فدعا له بالهداية ، فأصبح وقد جاءه الرجل ليأخذ عنه الطريق وما صلى قبل ذلك قط ، فنظر إليه رضى الله عنه ، فإذا هو لا يتمالك نفسه من البكاء والصياح وتاب توبة صادقة.
ومن كراماته الكرامة الكبرى عند المحققين من العارفين ، وهى الاستقامة على جادة الشريعة المحمدية باطنًا وظاهرًا على ممر الأوقات ، واختلاف الأحوال . أما الاستقامة الباطنة فهى سلامة العقيدة من مذاهب أهل الأهواء ، والتحلى بالأخلاق المستقيمة ، وأما الظاهرة فهى اجتناب المناهى وإتيان المأمورات قدر المستطاع من غير تفريط ولا إفراط ، وإنما كانت هذه الكرامة بالمنزلة التى وصفناها لأنها العلامة الصادقة على ولاية من خلعت عليه دون ما عداها من الخوارق ، فإنه قد يجريها الله تعالى على يد المحق إكراماً ، ويخلقها على يد المبطل مكرًا واستدراجًا ... وإذ قد عرفت ذلك فاعلم أنه رضى الله عنه كان من الاستقامة بأقسامها كلها بالمنزل الأعلى ، تكفلت كتبه بشرح عقيدته ، وهى كما تنطق به تلك الكتب عقيدة أهل السنة ، وكان يختار فى آيات الصفات وأحاديثها مذهب أفاضل المحققين من السلف ، وهو تنـزيه الله عز وجل عن الظاهر المستحيل ، وتفويض معانيها المرادة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم . وماذا أقول فى أخلاقه رضى الله عنه ؟ كان آية فى الشجاعة والنجدة ، إمامًا فى التواضع والصفح والكرم والسخاء ... بل كان رضى الله عنه مضرب الأمثال فى كل خلق كريم ، تشبعت ذاته بالأنوار المحمدية . يؤثر على نفسه ، ولو كان به خصاصة فى غير مَنٍّ ولا أذى ، ويحث أتباعه على الإيثار والمواساة ، فرغ قلبه من هم الدنيا وماتت نفسه عن شهواتها ، بل كان إذ جالسه من أحاطت به الهموم ، انزاحت عنه بمجرد مجالسته ، وأحس قلبه براحة تامة .
وأما استقامته الظاهرة ، فقد كان فيها غاية لا تدرك ؛ يتعبد على مذهب الإمام الشافعى رضى الله عنه ويراعى المعتمد من الأقوال فى المذهب ، فى غير وسوسة ولا تنطع ، لا يحب المنكر ولا يقره ويغيره بما استطاع من المراتب المنصوص عليها فى الحديث الشريف . وكان إذا وعظ أصحابه أو غيرهم تراه كأنه يشاهد ما حذر منه أو رغب فيه ، وإذا أمر بمعروف أو نهى عن منكر ترفق وتلطف ، قد اتسعت نفسه للمسترشدين على اختلاف طبقاتهم ، يأخذ بكل منهم إلى الدين من أقرب الطرق التى تلائم مشربه ، وهو مع ذلك يشتغل بتصنيف المصنفات فيما دعت إليه الحاجة وطبعها وتصحيحها ، ويقوم بحوائج أهله : يكنس بيته ، ويخدم ضيفه ، وإن كان صغيرًا حقيرًا ، فى تبسط لا يذهب بالوقار ، ونشاط يتنـزه عن الطيش ، ولم يكن بالمتكلف ، إن كان عنده الشىء قدمه ، وإلا سكت راضيًا غير قلق ولا متحير ، وكان إذا صلى اعتدل غير مطول ولا مجحف ، يحافظ على الوتر والرواتب ، ويصلى الضحى إذا وجد من نفسه خفة . ورده اللازم الدائم شغل القلب بالله عز وجل . وكان يتحرى السهل من العبارات فى تصنيفه ووعظه ، ويقرب المعانى العالية بالأمثال الواضحة .
وكان رضى الله عنه مع تقدمه فى السن شديد الصبر على مشاق الأسفار لا يسأم الإرشاد فى ليل ولا نهار ، وسطًا فى مأكله ومشربه ومنامه ، ينزل عند الغنى والفقير وينهاه عن التكلف ، يأتيه الوافدون وهم كثير حتى إذا حضروا الدرس والختم أمرهم بالانصراف إلى بيوتهم ، وربما ذهب بهم إلى حيث نزل فأمر لهم بالقهوة ثم أمرهم بالانصراف حتى لا يضيق الأمر على رب المنزل ، فإذا ألح عليه أن يطعموا عنده وعرف فيه الصدق والسماحة أذن فى ذلك ، وكان يقول : (طعام المريد سماع العلم ، وحضور الذكر والختم ، ولا ينبغى أن يكون همه إلا ذلك وليس من شأن المريدين الصادقين إذا حضروا من بلادهم أن يقصدوا الأكل عند الإخوان فإن وقع ذلك ولم يكن هو الباعث على المجىء ، وكان عن طيب خاطر من المضيف لم يكن به بأس ؛ بل إن شق ترك الطعام على رب المنزل كان تناوله أفضل من تركه) . وإذا كان رضى الله عنه فى السفر فإنما هو دلالة على الله ، وإذا لم يجد إقبالا فى قرية على الخير بعد بذل خالص النصيحة أسرع إلى التحول عنها ، وقال : (من ضياع العمر والخسران فيه البقاء مع مثل هؤلاء) ولا يمنعه ذلك أن يعود إليهم إذا آنس فيهم ميلا إلى الرشاد ، وإن هو أقام فلن تراه إلا ذاكرًا أو مذكرًا ، أو مشغولا بتصنيف ، أو مطالعة فى علم نافع ، أو رادًّا لشارد بالهمة وقوة التوجه ، أو متوجهًا إلى الله فى دفع بلاء خاص أو عام ، أو جلب خير كذلك ولا يصرف همته عن الطلب رؤية تعسر السبب ، ولا يدع ما قدر عليه من الأسباب العادية المشروعة اتكالا على قوة التوجه الباطنى بل يتعاطاهما جميعًا ، فإن ظفر بحاجته من ربه وإلا أحسن الظن بمولاه ، ولم يجد فى نفسه حرجًا من ذلك المنع وسلم تسليما .
وكان رضى الله عنه يهتم لما يعرو أصحابه أشد مما يهتم لنفسه ، ولا يدع السؤال عنهم يزور مرضاهم ، ويشيع جنائزهم ، ويعزى مصابهم إن استطاع لذلك سبيلا ، ولا يحتشم ذا جاه فيمتنع من الإنكار عليه فيما ينبغى أن ينكر ، ولا يغلظ عليه حتى يستوحش ، وكان يكثر من ذكر الموت والتذكير به . خرجت مرة فى تشييع جنازة وكان ذلك أول ما صحبته فلما رجعت سألنى : أين كنت ؟ فأخبرته فقال : رجعت فى هذه المرة وليأتين يوم تذهب إلى المقابر ما ترجع . وكان لهذا الكلام أثر فى التذكير بالآخرة لا ينسى ، وكان كثيرًا ما يقول عند إرادة القيام من مجلسه : نقوم مرتين ، ويمدهما ، يشير إلى القيام للبعث لله رب العالمين ، ويقيم القرائن على هذا المعنى . وكان كلما انتقل من موضع جعل هذا انتقال عبرة إلى انتقال العبد من الدنيا إلى الآخرة وكان يقول : ذكر الموت باللسان لا يجدى شيئًا إنما المعول على ما كان بالقلب فإنه الذى تترتب عليه الآثار المطلوبة للشارع صلى الله عليه وسلم فى أمره بذكر هاذم اللذات وكان يبالغ فى النهى عن اللغو من القول والفعل .
وقد صحبته رضى الله عنه ، وتشرفت بأخذ الطريق عنه بالأزهر الشريف آخر شوال سنة (1324 هـ) إلى آخر حياته ومرض عدة مرات فلما رأى ما بى من أثر الغم قال : لا تحزن فإنى وإن كنت ميتًا ولابد لكنى لن أموت فى هذا المرض حتى إذا كان مرضه الذى توفى فيه قال لى رضى الله عنه : (مهما أتيت به من طبيب أو دواء فلن يغنى شيئًا قد حضر الأجل فى هذه المرة) فكنت أجوِّز أن يكون ذلك من شدة الوجع وأقول : بل أنت معافى منه إن شاء الله فيسكت متبسما فلما كانت صبيحة يوم السبت الحادى عشر من شهر ربيع الأول صعدت إلى غرفته على العادة فقلت : كيف أصبحتم اليوم ؟ فقال رضى الله عنه ما لفظه (هذا آخر يوم من عمرى) فأظهرت التجلد وقلت متبسما : بل هو أول يوم فى الشفاء إن شاء الله تعالى فقال : (لا بل هو ما قلت لك) ثم قال : (أنا محمد عبيد الله – ومد لفظة الجلالة وسكن الهاء – أنا راض) مرتين أو ثلاثا وصدق الخبر الخبر فإنه توفى فى أوائل الليلة التالية لهذا اليوم (ليلة الأحد) وكان إذا سمع منه أهله أنه مقبوض فى هذا المرض صاحوا وقالوا : لمن تتركنا ؟ فيقول : لله الذى خلقكم ، ولا يرى عليه أثر ضجر لفراقهم . ولم يأت ضحى ذلك اليوم حتى أقبل الناس من كل فج ، ولم يشرع فى تجهيزه إلا بعد الظهر ، ولما احتمل على سريره ازدحم الناس جدًا حتى خشينا أن يقع ما لا نحب وإذا برذاذ خفيف كأنما نزلت فيه السكينة والوقار ، وهدأت الحال ، وانتظم أمر المشيعين وكأن الأرض تطوى تحت أرجلهم ، حتى لم يشعر أحد بتعب مع بُعد المسافة ، وصلى عليه بالأزهر الشريف ، وكان المصلون عددًا لا يحصى ، مع أن الزمان كان زمان مسامحة الطلبة وسفر الكثير منهم إلى بلادهم ، ثم دُفن رضى الله عنه بقرافة المجاورين على مقربة من قبرى الإمامين الجليلين الجلال المحلى ، والتاج السبكى ، وقد بُنى على القبر مزار لإحياء الزيارة ، وللأمن من انتهاك حرمة صاحب القبر بالنبش ونحوه ، مما هو واقع الآن فى قرافة مصر ، ولا يخفى أن البناء لهذه الأغراض أجازه كثير من أهل العلم المحققين ، وخصصوا النهى الوارد فى المنع من البناء على القبر ، وتخصيص العمومات بالمخصصات المعتبرة ذائع شائع فى الكتاب والسنة ، ولا يتمارى فيه اثنان من أهل الفضل ، وممن صرح بتخصيص النهى الحافظ الكبير ، والفقيه المتقن جلال الدين السيوطى فى آخرين من الجهابذة من شافعية وغيرهم ، وإنما ينكر على الشىء إذا كان منكرًا إجماعًا ، وليس هذا منه بحمد الله تعالى .
هذا آخر ما قصدنا إيراده من كلام مولانا الشيخ العزامى رحمه الله ، داعين القارئ للاستزادة من ترجمة مولانا الشيخ الكردى الموجودة بتمامها فى أول كتاب تنوير القلوب .
أهم تلاميذ
مولانا الشيخ الكردى
ذكر مولانا الشيخ سلامة العزامى فى ثنايا ترجمته لسيدنا لشيخ الكردى بعض كبار تلامذته ، نذكرهم ونضيف إليهم بعض من وصل إلينا بالسماع :
1) مولانا الشيخ سلامة العزامى (ت 1376 هـ) ، وقد تولى مشيخة الطريقة بعد سيدنا الشيخ الكردى . 2) مولانا الشيخ محمد يوسف السقا (ت 1360 هـ) ، وهو أحد خلفاء سيدنا الكردى وكانت له تلاميذ ومريدين من أشهرهم خليفته العلامة الشيخ الولى عبد الوهاب سليم إمام مسجد الإمام الشافعى والذى انقطع بوفاته هذا الفرع من الطريق . 3) العالم الفاضل إبراهيم ناجى (ت 1379 هـ) . 4) العالم الفاضل العلامة محمد يوسف الباهى . 5) العلامة الشيخ أبو الخير محمد بن عبد الواحد الإهناسى (ت 1371 هـ) . 6) العالم الصالح الشيخ سليمان شاكر (ت 1348هـ) . 7) العالم الفاضل موسى زهير . 8) العلامة المحقق الشيخ محمد راضى الحنفى ، وكان مشهورا بين أهل العلم بالأزهر بالذكاء وشدة العارضة وسعة العلم . 9) الأديب الصالح الشيخ سليمان بن على بن يونس الجهنى (ت 1348 هـ) . 10) العارف بالله الشيخ وافى عبد الصمد أشعث .
ومن طرائف العلم :
أن مولانا الشيخ محمد أمين الكردى رضى الله عنه توفى سنة (1332 هـ ) وما زال بعض مريديه حيا إلى اليوم أو توفاهم الله تعالى فى السنين الأخيرة ، وهؤلاء ممن أدركوا الشيخ الكردى صغارا ، ثم عُمِّروا حتى جاوزوا المائة ، فمن هؤلاء الحاج الصالح صادق الكومى عمدة قرنفيل بالقليوبية ، وكان مشايخنا إذا نزلوا ببلده يقصدونه بالزيارة صلة له ، وحفظا لمودته .
ومن هؤلاء الشيخ البركة زكريا البخارى ، المجاور بالمدينة المنورة وقد جاوز المائة والعشرين سنة فيما سمعنا ، وعندما رأى حفيده مولانا شيخَ الإسلام ضياء الدين الكردى رحمه الله أثناء زيارته للنبى صلى الله عليه وسلم فى أواخر القرن الهجرى الماضى ، فاعتقد أنه الشيخ الكردى فناداه يا شيخ كردى ، فوقف له مولانا الشيخ ضياء الدين ، وأجابه بأنه حفيد الشيخ الكردى ، فذكر له الشيخ زكريا أنه من تلاميذ الشيخ الكردى ، وصارت مودة لازمة فى الله تعالى ، وما زال أخواننا يودونه بالزيارة إذا نزلوا المدينة ، وذلك حتى بضع سنين خلت .
ومن طريف ما وقع أيضا من بضعة سنين أن مولانا الشيخ ضياء الدين كان له درس عقب صلاة العصر كل يوم السبت فى رمضان بمسجد بولاق– وهو المسجد الذى كان مولانا الشيخ محمد أمين الكردى يلقى دروسه فيه – وإذا بأحد المسنين من أهل الحى يقوم للسلام على مولانا الشيخ ضياء الدين بعد الدرس ، ويسأله إن كان يعرف شيخا اسمه الشيخ الكردى لأنه يشبهه جسما وصوتا وطريقة فى الدرس ، فأخبره مولانا الشيخ ضياء الدين بأنه جده .
وآخر من توفى من تلاميذ الشيخ الكردى من العلماء فيما بلغنا : الولى الصالح الشيخ على غراب رحمه الله تعالى ، حيث حضر على الشيخ الكردى دروسه بالأزهر ، وأصبح بعد ذلك من مريدى الشيخ سلامة العزامى ، وقد توفى الشيخ على غرابة فى حدود سنة 1400 هـ / 1980 م .
مؤلفات الشيخ الكردى
رغم أعباء الدعوة إلى الله تعالى ، فقد اشتغل مولانا الشيخ الكردى بالتأليف ، وترك لنا الكثير من المؤلفات النافعة .
وفى الحقيقة فإن مؤلفاته بحاجة إلى دراسة خاصة تفصيلية ، تكشف عن أصالتها ، ومنهجها الخاص بها ، ولكن فى نبذة سريعة نقول : إن مولانا الشيخ الكردى أحد قلائل العلماء المتأخرين الذين كتبوا فى علوم الإسلام دون أن يفصلوا بين دوائر الإسلام والإيمان والإحسان ، بل مزج بين هذه الدوائر مزجا يحتاج إليه الناس كثيرا ، ليتعلموا كيف يقرنوا الإيمان بالعلم ، والعلم بالعمل ، والعمل بالإخلاص ، ولا يتعلموا العلم تعلما جافا لا يقربهم من الله تعالى .
ومن جهة أخرى فإن كتابه تنوير القلوب ، والذى يأتى على ذورة مؤلفاته ، فيه من دقة العبارة ، واستخلاصها نتاج ما بحثه علماء الكلام فى القسم الكلامى ، أو علماء الشافعية فى القسم الفقهى وناقشوه فى شروحهم وحواشيهم وتقريراتهم ما لا يقدر قدره إلا من أراد أن يسبر غور مسألة من مسائل التوحيد أو الفقه فى كتب الأصحاب ويجمع أشتات الكلام فيها ويجهد نفسه أيما إجهاد فى المناقشات والترجيحات والاختلافات ، وإذا بمولانا الشيخ الكردى قد أتى بلب اللباب ، بعبارة عالية مع سلاستها ، وسلامتها من المناقشات اللفظية ، جامعة لما استقر عليه العلماء من الترجيح ، مع التدليل والتعليل .
فعبارته تجمع دقة المتون ، ووضوح الشروح ، والسلامة من الاعتراضات التى تذكر فى الحواشى ، رضى الله عنه وأرضاه .
ومن جهة ثالثة فقد كانت عناية مولانا الشيخ الكردى بالحديث الشريف ، وبيان أدلة المسائل كبيرة ، وقد زادها تحريرا وتخريجا سيدنا الشيخ نجم الدين الكردى .
ومن جهة رابعة فإن العصر الذى كتب فيه مولانا الشيخ الكردى مؤلفاته هو آخر عصر الحواشى والتقريرات الأزهرية ، وبداية عهد جديد فى التجديد فى طرق التأليف والتصنيف فى العلوم الإسلامية بعد الأزمة الحضارية العاصفة التى مرت بها الأمة الإسلامية إبان الاحتلال العسكرى والسياسى من دول الغرب لعامة دول الإسلام ، وقد أخذ التجديد فى التأليف مناحٍ شتى ، بين مبعد ومقرب ، بين محب لتراثه راغب فى التواصل معه نجح فى تواصله ذلك أو فشل ، وبين متنكر لتراثه مستكبر عليه لا يدع صلة له به إلا سارع بقطعها ونفيها .
ومن جهة خامسة فقد كان مولانا الشيخ الكردى مع كونه شافعيا لا يتعصب لمذهب ، ويتسع علمه ليشمل المذاهب الأربعة المتبعة ، ولهذا شملت العديد من مؤلفاته أحكام المذاهب الأربعة كما فى مرشد العوام لأحكام الصيام وفتح المسالك فى إيضاح المناسك ، بل إنه ألف كتبا لغير الشافعية ، كهداية الطالبين لأحكام الدين ، على المذهب المالكى .
ويأتى مولانا الشيخ الكردى ليكون من تلك الثلة القليلة من كبار علماء الأمة التى وعت بتراثها وعيا عميقا ، وأدركت الأزمة العاصفة بكل أبعادها ، وعملت جاهدة وواعية على مواجهة واجب الوقت ، ولهذا تجد فى كتبه العون التام من خلال قراءتها على الاتصال بكتب العلماء قبله ، وعلى اكتمال الرؤية لدى القارئ فى دوائر الإيمان والإسلام والإحسان ، بحيث لا يخل بأحدها . على حين تجد كتب مؤلفين آخرين تقطع صلتك بما قبلها ، ولا تعينك على فهمها ، ولا شك أن هذه الفترة الهامة من تاريخ أمتنا وأثرها على خطط التصنيف فى علوم الإسلام واتجاهاتها بحاجة إلى دارسة متعمقة ومتخصصة تجلو لنا المزيد من خصائص هذه المرحلة ، ومدى تأثير الشيخ الكردى فيها . على أننا إذا تأملنا رجال هذه المدرسة الأصيلة التى يقف الشيخ الكردى على رأسها نجد أن وفاة أغلبهم بعد وفاة الشيخ الكردى بعدة عقود مما يعنى أنهم تأثروا فيما تأثروا به بمنهج الشيخ رضى الله عنهم ، فمن هؤلاء خليفته مولانا الشيخ سلامة العزامى (1376 هـ) ، والشيخ محمد زاهد الكوثرى (1371 هـ) ، والشيخ يوسف الدجوى (1365 هـ) ، والشيخ محمد بخيت المطيعى (1354 هـ) ، والشيخ محمد حسنين العدوى المالكى (1355 هـ) ، وغيرهم من أعلام تلك المدرسة الشامخة العريقة .
وبعد فهذه سمات رئيسية تمتاز بها مؤلفات مولانا الشيخ الكردى فى عصرها ، وما بعده ، نرجو أن نكون قد أوفيناها بعض حقها فى هذه العجالة .
ومن أهم مؤلفاته :
1) إرشاد المحتاج إلى حقوق الأزواج . 2) تعريب رسالة أيها الولد ، أو خلاصة التصانيف فى التصوف للإمام الغزالى . 3) تنوير القلوب . 4) الحقيقة العلية فى مناقب النقشبندية . 5) سعادة المبتدئين فى علم الدين ، على المذهب الشافعى . 6) ضوء السراج فى فضل رجب وقصة المعراج . 7) العهود الوثيقة فى التمسك بالشريعة والحقيقة . 8) فتح المسالك فى إيضاح المناسك ، على المذاهب الأربعة . 9) مرشد العوام لأحكام الصيام ، على المذاهب الأربعة . 10) المواهب السرمدية فى مناقب السادة النقشبندية . 11) نصيحة البرية فى الخطب المنبرية ، ديوان خطب . 12) هداية الطالبين لأحكام الدين ، على المذهب المالكى .

تابع : بيت مولانا الشيخ محمد أمين الكردى 2
([1]) هذه الكلمة نشرتها كتصدير لكتاب مرشد العوام إلى أحكام الصيام ، القاهرة : مجموعة زاد الاقتصادية ، 1424 هـ / 2003 م ، بإذن من حفيد المؤلف مولانا الشيخ محمد نجم الدين الكردى ، وحقوق الطبع محفوظة له ، والذى كان لى شرف القيام بتصحيحها . وقد أضفت عليها هنا بعض الإضافات .
([2]) أشرنا أيضا إلى فضل أعلام هذا البيت (بيت مولانا الشيخ الكردى) عند حديثنا فى مقدمة جامع الأحاديث على تصوف الإمام السيوطى ، وتعرضنا لمعنى التصوف الحقيقى ، والنقد الذى وجهه العارف الشعرانى لمدعى التصوف ، وتناولنا فى هامش طويل أعلام من أدركناه من الشيوخ والعلماء والأكابر ، وعلى رأسهم أعلام بيت مولانا الشيخ الكردى ، انظر مقدمة الجامع (ص 104 – 108) ، كما يمكن الاطلاع عليه من خلال الرابط التالى : التصوف الحقيقى - الإمام السيوطى نموذجا - مقتطف من مقدمة جامع الأحاديث
([3]) ممن ترجم لمولانا الكردى أيضا : معجم المؤلفين (9/77) ، وذكر فى مصادرها : مجاهد فى الأعلام الشرقية 3/116 ، وفهرس الأزهرية 6/ 4 ، 5، 197 ، 329 ، والبغدادى فى إيضاح المكنون 2/ 131 . وترجمه أيضا : سركيس فى معجم المطبوعات 1554-1555 ، والدكتور محمد أحمد درنيقة فى كتابه : الطريقة النقشبندية وأعلامها ، ص 130-131 ، ط جروس برس ، 1407 هـ / 1987 م .

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم
آداب السادة النقشنبدية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وبعد :
فهذه جملة من الآداب التى رأيت مشايخنا النقشبندية فى بيت سيدنا الشيخ الكردى يربون عليها المريدين ، وهى من عيون الآداب الشرعية ، نابعة من معين الحضرة المحمدية ، وقد أرشدنى الله إلى جمعها ، لتظهر صورة الطريق فى القرن الخامس عشر ، وليعلم الناس أن الطريق لم يرتفع بعد ، وأن الله لا يخلى وجه الأرض عن مرشد كامل يرشد الناس إليه ، وسأجعل مقدمته فى الترجمة لأعلام هذا البيت المنيف والذى أسسه بمصر مولانا الشيخ محمد أمين الكردى ، وابنه مولانا الإمام العارف الكبير نجم الدين الكردى ، وأبناؤها : مولانا الشيخ عبد الرحمن الكردى ، ومولانا شيخ الإسلام ضياء الدين الكردى ، ومولانا العلامة الفقيه العارف محمد نجم الدين الكردى ، ومولانا الشيخ حميد ، ومولانا الشيخ أحمد ، ومولانا الشيخ حسن ، ومولانا الشيخ حسين ، وجميعهم أبناء سيدنا الشيخ نجم الدين الكردى ، ومن أحفاده الذين برزوا إلى الوقت فى العلم والطريق : مولانا الشيخ أحمد بن شيخ الإسلام ضياء الدين الكردى ، وأخوه مولانا الشيخ محمد .
وقد جريت فيه على طريقة سيدى عبد الوهاب الشعرانى ، فأصدر الأدب بقولى : ومن آدابهم رضى الله عنهم ، وأسرد الآداب أدبا أدبا حسب الحاجة والوقوع ، دون ترتيب صناعى . ومن الوقائع التى أذكرها ما وقع معى ، ومنها ما وقع مع المريدين وحضرته ، أو سمعته من الأخوان الذين تقدمت صحبتهم لمشايخنا ، وقد أدركت جملة وافرة من أصحاب سيدنا الشيخ نجم الدين رضى الله عنه ، ومن رآهم قطع جزما بكمال سيدنا الشيخ نجم الدين وبلوغه الغاية فى العلم والولاية والمعرفة ، فإنه لا يربى مثل هذه التربية إلا الشيخ الكامل ، فرضى الله عنه .
ولا ألتفت فيه إلى حكاية الكرامات والرؤيا مع كثرتها جدا وتواترها عن مشايخنا لأنهم كانوا لا يلقون لها بالا ، ولا يحبون التحاكى بها ، ويرونها قاطعة عن السلوك . فلا أذكر منها إلا ما كان فى ثنايا حكايته أدب يستفاد .
وقد شرعت فيه 20 صفر 1428 هـ ، يسر الله إتمامه ، ونفع به .